الفصل السابع

أميركا تختار الحرب

 

"لا تدفعونا للحرب. لا تجعلوها الخيار الوحيد المتروك لنا لنحمي كرامتنا. إذا ما أقدمت الولايات المتحدة على إذلال العراق علناً, فإن علينا أن نرد, مهما كان ذلك مدمر لنا."

                            جزء من رد الرئيس صدام حسين على

                            السفيرة الأميركية, أبريل غلاسبي, أثناء

                            اجتماعهما في 25 يوليو/تموز 1990.[1]

 

"على إسرائيل أن تستمر في سياستها الثابتة, والتي تقوم على مبدأ منع أعدائها القريبين والبعيدين من الحصول على الأسلحة الذرية."

                                      أهارون ليفراني[2]

 

 

     لم يستغرق الرئيس بوش وقتا طويلا للوصول إلى قرار الحرب ضد العراق. فقد قرر بأن الحرب ضرورية من أجل تدمير مقدرات العراق من معدات عسكرية, وقوى عاملة, وصناعة عسكرية, واقتصاد. ولم يكن ذلك القرار السريع بتبني خيار الحرب لإخراج القوات العراقية من الكويت مفاجأة للمراقبين المتابعين لكيفية صنع القرار في أميركا. فقد تم تصنيف العراق في خانة أعداء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط منذ أوائل عام 1990, من قبل الخبراء والقادة العسكريين ومؤيدي إسرائيل في الكونغرس ووسائل الإعلام.

        وقد انتقلت العلاقات العراقية~الأميركية من الصداقة إلى العداوة عدة مرات طيلة القرن العشرين. فخلال معظم الخمسينات, كان العراق يعد صديقاً للغرب, نظراً لأن حكومته الملكية كانت موالية لبريطانيا. أما حكومات النظام الجمهوري, فإنها اعتبرت معادية للغرب طيلة الستينات والنصف الأول من السبعينات. وقد خف العداء الغربي للعراق بعد توقيع اتفاقية الجزائر في عام 1975, مع حكومة شاه إيران الموالية للغرب. واستمر ذلك الحال طيلة الحرب العراقية~الإيرانية (1980-1988). وحتى بعد انتهاء الحرب, أراد بعض موظفي وزارة الخارجية الأميركية الاستمرار في السياسة الودية تجاه العراق. فاقترحت السفيرة أبريل غلاسبي تحسين العلاقات العراقية~الأميركية. واستجابة لذلك, أصدر الرئيس بوش توجيهاً رئاسياً في 2 أكتوبر/تشرين أول 1989 (توجيه الأمن القومي رقم 26), لهذا الغرض. وكان الهدف زيادة حجم التجارة بين البلدين. فقد اشترت الولايات المتحدة ما قيمته حوالي 1.6 بليون دولار من النفط العراقي الخام, في عام 1988. ولكن التوجيه الرئاسي أدى إلى زيادة الواردات العراقية من الحبوب الأميركية بحوالي بليون دولار في العام, وذلك بعد تزويد المصدرين الأميركيين بتأمين حكومي على صادراتهم.[3]

    وفي 6 أكتوبر/تشرين أول 1989, تقابل وزير الخارجية الأميركي (جيمس بيكر) مع وزير الخارجية العراقي (طارق عزيز) من أجل الحصول على مساندته لخطة الرئيس مبارك للوساطة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. لكن طارق عزيز امتنع عن ذلك واشتكى من محاولات أميركية لزعزعة الاستقرار في العراق. وعلى إثر ذلك, قام جيمس بيكر بمراجعة كل من الرئيس بوش ومستشاره لشئون الأمن القومي (برنت سكوكروفت) في شكوى طارق عزيز, فنفى الاثنان ذلك. وطلب بوش من بيكر أن يكتب رسالة إلى طارق عزيز, في نهاية أكتوبر/تشرين أول, يخبره فيها بأن "الولايات المتحدة غير متورطة في أية محاولة لإضعاف العراق أو لزعزعة استقراره."[4]

        وعلى الرغم من هذه التأكيدات, فإن العراق قد انتقل بسرعة من قائمة الدول الصديقة إلى قائمة الدول المعادية, في أقل من عام واحد. فالمتعاطفون مع العرب من "المستعربين" في وزارة الخارجية, مثل السفيرة أبريل غلاسبي, لم يتمكنوا من الصمود في وجه النفوذ الطاغي "لأعوان إسرائيل,"[5] الذين تمكنوا من تغيير السياسة الخارجية الأميركية نحو العراق, ابتداء من أبريل/نيسان 1990. وهذا يعني أن الإدارة الأميركية كانت تعيش حالة عداء للعراق حتى قبل حدوث الغزو العراقي للكويت بأربعة أشهر, أي أن القصة الحقيقية لأزمة الخليج والحرب التي تلتها بدأت قبل الثاني من أغسطس/آب 1990 بوقت طويل. ولا يمكن فهم تلك القصة إلاّّ بفهم طريقة عمل النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة.

        يحتوي هذا الفصل على أربعة أجزاء مكرسة لبحث كيفية وأسباب اختيار أميركا للحرب كوسيلة لإنهاء الأزمة. يتضمن القسم الأول تحليلاً لنظرية "واقعية النخبة الحاكمة," بهدف إيضاح كيفية قيام أعضاء النخبة الأميركية الحاكمة بأدائهم لمهماتهم, من تفكير وتخطيط وتنفيذ, خاصة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الأميركية. ويتضمن القسم الثاني تحليل مواقف أهم الأشخاص الذين لعبوا أدواراً في صنع السياسة الخارجية أو التأثير عليها, وذلك بهدف تبيان كيفية صنع قرار الحرب, ومن هم الذين كان لهم النفوذ الأكبر في صنعه. لذلك, سيشمل البحث أهم المؤسسات الخاصة والإدارات الحكومية التي يتواجد فيها أولئك الأشخاص, مثل معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى, ومجلس العلاقات الخارجية, ومجلس الأمن القومي, ووزارة الدفاع, ووزارة الخارجية. كذلك, فإن الجزء الثاني يحتوي على تحليل لتأثير رئيسة الوزراء البريطانية (مارغريت تاتشر) على موقف الرئيس بوش من الأزمة.

        ويبحث القسم الثالث في كيفية تبني إدارة بوش لخيار الحرب (بدلاً من قبول المبادرات السلمية) كوسيلة لتحقيق الانسحاب العراقي من الكويت. وذلك يشمل تحليلاً للسياسة الأميركية تجاه العراق, ولكيفية تبرير إدارة بوش للحرب, خاصة بالإشارة لمزايا استخدام القوة (بالنسبة للولايات المتحدة) ومساوئ اللجوء إلى العقوبات الاقتصادية (كوسيلة ضغط على العراق). كذلك, فإن هذا الجزء يشمل تحليلاً للدور الذي لعبه الرئيس بوش ومعه صقور الحرب الآخرين في مجلس الأمن القومي والكونغرس من أجل استعداء الشعب الأميركي على الرئيس العراقي صدام حسين, من خلال وصفه بأنه "هتلر" والإشارة إليه بصفة المفرد الغائب, "هو," تجنباً لذكر اسمه. ويعرض القسم الأخير من هذا الفصل إلى كيفية استخدام الرئيس بوش لفكرة النظام العالمي الجديد بهدف جعل استعمال القوة لحل الأزمة يبدو وكأنه أداة لتحقيق السلام, ليس في الشرق الأوسط فحسب, بل في العالم كله. والتحليل هنا يستند كثيراً على المذكرات التي كتبها بوش مع مستشاره للأمن القومي, والتي نشرت في عام 1998. والهدف من ذلك تجنب أي احتمال للشك في دقة الأحداث المشار إليها.

 

واقعية النخبة الحاكمة[6]

 

        طبقا للنموذج النظري الذي يستخدمه بعض علماء الاجتماع والسياسة, والمعروف "بالنخبة الحاكمة," يتم تحليل الدولة على أساس أنها لا تقع تحت سيطرة السياسيين المنتخبين فحسب, وإنما تحت سيطرة فئتين أخريين غير منتخبتين من قبل الشعب, هما كبار رجال الأعمال وكبار القادة العسكريين. مع العلم, بأن فئة رجال الأعمال هي الأقوى والأكثر نفوذاإ بين الفئات الثلاثة التي تكوِّن معاً ما يعرف بالنخبة الحاكمة. فتبرعاتهم السخية التي يقدمونها للسياسيين تتيح لهم أن يتمتعوا بتأثير كبير على من سيتم تعيينه في المناصب العليا في الوزارات والإدارات الحكومية المختلفة. والحقيقة أن معظم من يتم تعيينهم في تلك المناصب هم ممن كانوا يشغلون مناصب إدارية عليا في الشركات التي يدين لها السياسيون بالولاء نتيجة تبرعاتها الكبيرة لهم أثناء حملاتهم الانتخابية. كما يأتي بعضهم من الشركات القانونية المعروفة بميلها للحزب الفائز في الانتخابات. أخيراً, فإن بعض التعيينات في المناصب العليا تذهب إلى أبرز أساتذة "الدفاع" الذين يعملون في الجامعات الشهيرة, والتي غالبا ما تتلقى هبات من وزارة الدفاع لتمويل أبحاث ذات استخدامات عسكرية. ويقوم هؤلاء الأساتذة بتأليف الكتب وكتابة المقالات التي تبرر مزيداً من الإنفاق العسكري, كما يقومون بتمجيد الحروب والمغامرات العسكرية. وهكذا, فإنهم يعملون لصالح كبار شركات الصناعات العسكرية, وبالتالي يحظون بمساندتها.

        وعلى ذلك, فليس مصادفة أن يقوم ديفِد روكفلر بمساندة تعيين اثنين من هؤلاء الأساتذة, وهما هنري كيسنجر (كوزير للخارجية أثناء حكمي نيكسون وفورد) وزبغنيو بريزنسكي (كمستشار للأمن القومي أثناء حكم كارتر). وبعد أن أصبح لكيسنجر شركاته الخاصة به, بالإضافة الى نفوذه الكبير, فإنه ساند تعيين اثنين من موظفيه في مناصب عليا, وهما برنت سكوكروفت (الذي عين مستشاراً للأمن القومي في عهد بوش) ولورنس إيغلبرغر (الذي عين نائباً لوزير الخارجية, ثم وزيراً للخارجية في عهد بوش أيضاً). وبعد أن ترك ماك جورج بندي منصبه كمستشار للأمن القومي, عمل رئيساً لمؤسسة فورد. أما وزراء الدفاع تشارلز ويلسون, ونيل مكلروي, وتوماس غيتس, وروبرت مكنمارا, وكاسبر وينبرغر, فقد شغلوا أعلى المناصب في جنرال موتورز, و بوكتر أند غامبل, و مورغان غارانتي ترست, و فورد, و شركة بكتل, على التوالي. وكان جميعهم رؤساء للشركات المذكورة أو رؤساء لمجالس إداراتها ما عدا كاسبر وينبرغر, الذي كان نائباً لرئيس شركة بكتل. ولم يكن تأثير ممثلي النخبة الحاكمة هؤلاء مقصوراً على مناصبهم في الوزارات والإدارات الحكومية التي شغلوها, وإنما تعدى ذلك إلى التأثير على الرئيس نفسه. فهؤلاء هم رفاقه ومعلموه الذين يختلطون به ويعرِّفونه بوجهة نظرهم حول ما يجري في العالم, وحول ما ينبغي أن يكون موقف أميركا منه.[7]

    والحقيقة أن "الواقعية السياسية" ليست إلاّ وجهة نظر مغرقة في التبسيط, تنظر للحرب على أنها مبنية على لعبة سياسات القوة. وهي تمثل وجهة النظر السائدة بين السياسيين وأساتذة العلوم السياسية الأميركيين. وتضع المدرسة "الواقعية" أهمية بالغة على كسب الحرب بأية وسيلة. لذلك, فإن أتباع هذه المدرسة غير معنيين بأية أمور تتعلق بالعدل والإنصاف, أو المكاسب المشتركة, أو حتى بتكاليف الحروب. وهم غرباء عن مبدأ "عدم جواز الفصل بين المصالح القومية والواجبات الأخلاقية," الذي نادى به توماس جيفرسون (أحد مؤسسي الجمهورية الأميركية).[8] وقد وصف وزير الخارجية الأميركي (جيمس بيكر) نفسه بأنه "واقعي," وأنه والرئيس بوش ينتميان لجيل من الأميركيين الذين احتضنوا بقوة فكرة "الهيمنة الأميركية على العالم."[9]  وهذا الاصطلاح يعني (على الأقل طبقاً لقاموس وبستر) إبقاء أميركا كقوة عسكرية مسيطرة بهدف الحفاظ على الاستقرار في الشئون الدولية. كذلك فإنه يعني مد النفوذ الأميركي لجميع أنحاء العالم, طبقاً لبريزنسكي.[10]

        وقد كان هنري كيسنجر مهندساً للواقعية السياسية ومتقناً لها, خاصة في علاقات الغرب بالشرق, وتبعه في ذلك جيمس بيكر. وتمثلت هذه السياسة بشكل أساسي في ربط أية اتفاقية للحد من التسلح بالشئون السياسية التي تهم الإدارة الأميركية. وقد أطلق أنصار هذه السياسة على أنفسهم لقب "الواقعيين" في معارضة للمواقف "المثالية" التي كان يتخذها كبير المفاوضين الأميركيين, جيرارد سميث, الذي أدت به "مثاليته" إلى السذاجة (في رأيهم), وذلك لأنه كان يكتفي بالمفاوضة على الحد من بعض أنواع الأسلحة في مقابل الحد من أنواع أخري, دون فرض شروط أو تحقيق امتيازات إضافية. فقد كانوا يعرفون بأن الولايات المتحدة تتمتع بموقف أقوى في مفاوضاتها مع الاتحاد السوفيتي. وأتاح لهم ذلك المطالبة بتنازلات سوفيتية في أمور أخرى بعيدة عن التسلح, خاصة فيما يتعلق بالهجرة اليهودية من الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية. واستمرت تلك السياسة بقوة أكثر عندما تم تغيير سميث, وحل محله يوجين روستو أولاً ثم كِن أدلمان بعد ذلك.[11]

 وهكذا, وظف أولئك "الواقعيون" مفاوضات سباق التسلح لتحقيق الأهداف الصهيونية, خاصة الهجرة اليهودية إلى إسرائيل. وتعد هذه الحقيقة واحدة من الشواهد الواضحة على طبيعة العلاقات الصهيونية~الأميركية. وبالمناسبة, فإن كثيراً من السياسيين والمثقفين العرب يعتقدون بأن أميركا "تتعاطف" مع إسرائيل أو "تنحاز" لها, وهذا وصف غير دقيق بالمرة لعلاقات الولايات المتحدة بإسرائيل. والسبب في عدم الدقة هنا ينبع من حقيقة أن الذي يتعاطف أو ينحاز يملك القدرة على فعل ذلك. أما في حالة السياسيين الأميركيين, فليست لهم تلك القدرة, وذلك ببساطة لأنهم خاضعون تماماً للسيطرة الصهيونية المباشرة. وليس من المبالغ فيه القول بأنه لا توجد سياسة خارجية أميركية مستقلة عن السياسة الإسرائيلية والاستراتيجية الصهيونية. وليس من الدقة أيضاً القول بأن أميركا توظف إسرائيل لمصالحها في الشرق الأوسط, لأن العكس هو الصحيح. فإسرائيل هي المهيمنة على النظام الأميركي, وهي التي توظفه لتحقيق أهدافها.

لكن, كيف توصل "الواقعيون" لموقفهم ذاك؟ يقول أحد منظِّريهم, وهو مورجنتاو,[12] أن السبب في ذلك يكمن في الطبيعة "الفوضوية" للعلاقات الدولية. ولذلك, فإن الحكام في بلد ما هم الذين يقررون المصالح القومية, كما أنهم يستخدمون القوة المحسوبة لتحقيق أهدافهم من خلال الحروب التي يشنونها. وهكذا, فإن حجم القوة التي يقررون استخدامها في الحروب ليس له علاقة بحجم وقدرات أعدائهم, وإنما تقرره أهداف الحرب التي يضعونها. وهذا يعني أنه لا توجد مصالح قومية دائمة ومعروفة. وبدلاً من ذلك, فإن الجماعات المؤثرة في المجتمع هي التي تقرر ماهية المصالح القومية بطريقة تحمي مصالحها, التي تترجم الى سياسات يلتزم بصياغتها وتنفيذها ممثلوها المعينين في المناصب العليا في الحكومة.[13]       

    وعادة ما يقوم "الواقعيون" باستخدام النظرية "الشعبية" لتحضير الشعب للحرب. فيصورون أحد أطراف الحرب على أنه يمثل الخير, بينما يكون الآخر ممثلاً للشر. ويتم رسم صورة للعدو على أنه شيطان, وهمجي, ومتخلف. ويؤدي مثل هذا الاستقطاب إلى الحيلولة دون المناقشات العامة حول ما إذا كانت الحرب ضرورية, كما أنه يبتر أية محاولة لحل الصراع بصفة سلمية. وعندما يتكون مثل هذا النوع من التفكير تجاه العدو عند أفراد الطبقة الحاكمة, فإنهم لا يختلفون عن بعضهم البعض, وتصبح تصريحاتهم المتعلقة بالصراع واحدة لا خلاف بينها.[14]

    وبالفعل, فإن واقعيي إدارة بوش قد استخدموا النظرية الشعبية للتأثير على الرأي العام الأميركي بهدف كسب تأييده لقرار الحرب. فمنذ البداية, تم وصف الرئيس العراقي بأنه هتلر. ولم تكن هناك مناقشات داخل الإدارة حول قرار الحرب. وبدلاً من ذلك, تركزت المناقشات على كيفية تدمير العراق بأقل تكاليف ممكنة. ونتيجة لذلك, فإن قسماً كبيراً من الأميركيين قد وافق على تبني ذلك النمط التبسيطي للرئيس العراقي, كما تقبل قرار الحرب. وقد أوردت صحيفة لوس أنجيلس تايمز, في عددها الصادر يوم 14 ديسمبر/كانون أول 1990, أن 61 بالمائة من الأميركيين كانوا يؤيدون سياسة إدارة بوش بشأن الأزمة العراقية~الكويتية. وذكرت محطة تلفزيون إن بي سي, استنادا إلى استطلاع آخر للرأي, بأن 54 بالمائة من الأميركيين كانوا يوافقون على قرار إدارة بوش بشن الحرب على العراق إذا لم يسحب قواته من الكويت قبل 15 يناير/كانون ثاني 1991.[15] وقد عبَّر ذلك التأييد الشعبي لقرار الحرب عن نفسه في العدد الهائل من الأشرطة القماشية الصفراء التي علقت على الأشجار والبيوت وعلى صدور الناس.[16]

        وطيلة مدة الأزمة والحرب, كان معظم السياسيين والصحفيين يبالغون في وصف الصراع وكأنه بين الولايات المتحدة وشخص الرئيس العراقي وحده. وقد بلغوا في ذلك حد الهوَس والاستحواذ. وكانوا يتعمدون عدم ذكر اسم الرئيس العراقي أو لقبه الرسمي, فكانوا يشيرون له, في معظم الأحوال, على أنه "هو," وليس "صدام حسين," أو "الرئيس العراقي." وكانوا بذلك يعطون انطباعاً لمستمعيهم أو قرائهم بأن الحرب لم تكن ضد الشعب العراقي, وإنما فقط ضده "هو." وكانت تلك وسيلتهم في تحصين الأميركيين ضد أي تطور لمشاعر التعاطف نحو الشعب العراقي مستقبلاً, خاصة بعد أن تتسبب الحرب ومن بعدها الحظر والعقوبات في إزهاق أرواح مئات الآلاف من العراقيين. وتقدم لنا مذكرات الرئيس بوش ومستشاره سكوكروفت, التي نشراها على شكل كتاب في عام 1998, مثالاً على الإصرار على تبسيط الحرب وكأنها شنت ضد "صدام," وعلى كيفية تصوير الحرب التي شنت على الشعب العراقي وكأنها كانت ببساطة لمعاقبته "هو" (أي معاقبة الرئيس العراقي شخصياً).

        أما القوات العراقية في الكويت, فكانت توصف بأنها وحشية في تصرفاتها نحو الكويتيين. وخلال إحدى جلسات الاستماع في الكونغرس, التي سبقت التصويت لصالح قرار الحرب الذي اتخذته إدارة بوش, استمع أعضاء الكونغرس ومعهم الشعب الأميركي إلى شهادات تفيد بأن العراقيين كانوا يأخذون المعدات الطبية, بما في ذلك حاضنات الأطفال, من المستشفيات الكويتية. وقد قامت عدة صحف وشبكات تلفزيونية بالتحقيق في صحة تلك القصة, بعد ذلك. وأظهرت المقابلات التي أجريت مع الأطباء والإداريين الكويتيين, بعد الحرب, أن ذلك لم يحدث. والحقيقة أن أولئك الأطباء والإداريين هم الذين أخفوا تلك الأجهزة في المخازن الموجودة في الأدوار السفلى من المستشفيات.[17] وفوق ذلك, فإن منظمة العفو الدولية, التي كانت مسئولة عن ترويج القصة الكاذبة, قد اعتذرت, بعد الحرب, على تقريرها الأوَّلِي الذي نشرته عن الموضوع وذلك لأنها "لم تجد دليلاً يعتمد عليه لمساندة ذلك الادّعاء."[18] ومع ذلك, بقي الرئيس بوش مصمماً على القصة وذكرها في كتابه حتى بعد انفضاح أمرها بسبع سنوات, وبدون أي تعليق على مدى صحتها أو دقتها.[19]

 

العوامل المؤثرة على قرار الحرب

 

    في صيف عام 1989, أي بعد حوالي عام من انتهاء الحرب العراقية~الإيرانية, توصل محللو وزارة الدفاع الأميركية إلى استنتاج مفاده أن العراق قد أصبح يشكل تهديداً أكبر على استقرار المنطقة من التهديد الإيراني.[20] والحقيقة أنهم توقعوا أن يقوم العراق بغزو الكويت في ديسمبر/كانون أول 1989, أي قبل الغزو الفعلي بتسعة أشهر. وكانت أبرز الحقائق التي بنوا استنتاجاتهم عليها تتلخص في أن العراق قد أنهى الحرب مع إيران بنجاح, وبجيش تعداده مليون جندي, ولكن أيضاً بديون خارجية مقدارها حوالي 90 بليون دولار, وتدهور مستمر في أسعار النفط نتيجة لسياسات الإنتاج الكويتية.[21]

        وقد توصل خبراء وزارة الخارجية لنفس الاستنتاج, منذ أوائل عام 1990. ونجح دينيس روس و بوب كيميت في التأثير على وزير الخارجية (جيمس بيكر) لتغيير السياسة الأميركية نحو العراق, في أبريل/نيسان من ذلك العام. وهكذا, تم تصنيف العراق من قبل خبراء الإدارة الأميركية على أنه قوة معادية, قبل قيامه بغزو الكويت بعدة أشهر. والحقيقة أن أولئك الخبراء هم الصناع الحقيقيون للسياسة الأميركية, وليس الرئيس أو الكونغرس. فقد اعترف الرئيس بوش في مذكراته أنه لم يكن يعرف الموقف الأميركي من الأزمة, حتى في اليوم التالي لوقوع الغزو. فكيف اتخذ الرئيس بوش قراره بعد ذلك؟ وما هي العوامل الرئيسة التي أثرت عليه في اتخاذه لقرار الحرب؟

        يمكن تلخيص تلك العوامل في ثلاث مجموعات: المجموعة الأولي لها تأثير بعيد المدى على صنع السياسة الأميركية. وتتمثل هذه المجموعة في معاهد الأبحاث والمجالس التي تروج لسياسات الحرب الباردة عالمياً وإقليمياً, وعلى رأسها معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى و مجلس العلاقات الخارجية. فخلال الثمانينات, صدرت عنهما تقارير ونشرت مقالات تحذر من التهديد العراقي للوضع القائم في الشرق الأوسط, خاصة تهديد العراق للتفوق العسكري الإسرائيلي في المنطقة. وأهم من ذلك أن مؤلفي تلك التقارير والمقالات كان يتم تعيينهم كخبراء لشئون الشرق الأوسط, في الإدارات (الحكومات) الأميركية المتعاقبة. وكان ذلك يتيح لهم تحويل أفكارهم إلى خطوط عريضة, تصبح مرجعيات للسياسات التي تصنع في الإدارات والوكالات الحكومية المختلفة. وهكذا, فإن تلك التقارير والمقالات قد هيأت جواً من العداء للعراق داخل الإدارة الأميركية, قبل قيام العراق بغزو الكويت بوقت طويل. وكان تأثير المجموعة الثانية من العوامل مباشراً, ولكنه متصل بالمجموعة الأولى أيضاً. وتمثل ذلك في مناصب أولئك الخبراء, الذين أصبحوا موظفين رسميين في الحكومة, خاصة في مجلس الأمن القومي, ووزارة الدفاع, ووزارة الخارجية. أخيراً, فإن الرئيس بوش قد تعرض لتأثير خارجي عليه, تمثل في رئيسة الوزراء البريطانية, مارغريت تاتشر.

        وعلى ذلك, يمكن الإشارة إلى معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى على أنه كان أول المؤثرات على الرئيس بوش في اتخاذ قرار الحرب. وكان الغرض من تأسيس المعهد على يدي دينس روس ومارتن إنديك في عام 1985, التأثير على الإدارات الأميركية المتعاقبة حتى تتبع سياسة موالية لإسرائيل في الشرق الأوسط. فتحضيرا للتغيير الذي يحدث في الحكومة نتيجة للانتخابات الرئاسية التي تقع كل أربعة أعوام, يقوم المعهد بإصدار خطة عمل يوقعها مجموعة من السياسيين المنتمين للحزبين الذين يتناوبان على السلطة في أميركا. وسواء كانت الإدارة الجديدة ديمقراطية أو جمهورية, فإنها تلتزم بتلك الخطة كمرجعية للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط. وبالإضافة إلى ذلك, فإن المعهد قد دأب على إعداد ونشر تقارير (تسمى أبحاثاً لرسم السياسة) تحلل الموقف في الشرق الأوسط من وجهة نظر موالية لإسرائيل.

        وتعود قصة تأسيس معهد واشنطن (معهد دينيس روس ومارتن إنديك) إلى بداية الفترة الأولى من حكم الرئيس ريغَن, في أوائل الثمانينات. فقد قام توماس داين, رئيس اللجنة الأميركية~الإسرائيلية للعمل السياسي المعروفة باسم "أيباك," بتعيين مارتن إندك ليعمل في تلك المنظمة, التي تعد أكثر المنظمات العاملة لصالح إسرائيل نفوذاً في الولايات المتحدة. وكان مارتن إنديك لا يزال مواطناً استرالياً, وأكثر ما كان يفعله تمثل في نشر "أبحاث رسم السياسة" السابق ذكرها, والتي تركز على القيمة الاستراتيجية التي تشكلها إسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة, حسب ادعائه. وفي عام 1985, قام إنديك بتأسيس المعهد بالاشتراك مع دينيس روس. ويشترك الاثنان في نفس الرؤية لمختلف الموضوعات الخاصة بالشرق الأوسط مع ريتشارد هاس, الذي أصبح خبير الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي, أثناء حكم بوش الأول. وهكذا, كان ثلاثتهم (ولا يزالون) من أكثر الناس نفوذاً على الحكومات الأميركية المتعاقبة (جمهورية كانت أم ديمقراطية). فقد كتبوا وأعدوا معا العديد من أبحاث رسم السياسة الموالية لإسرائيل, منذ عام 1981, والتي تركز على الحاجة إلى التعاون الاستراتيجي بين إسرائيل والولايات المتحدة.[22]

وبعد هزيمة بوش في انتخابات عام 1992, خرج هاس من مجلس الأمن القومي وانضم إلى معهد أبحاث بروكنغز بواشنطن حتى مجيء بوش الأصغر للحكم, فعاد لمنصبه في مجلس الأمن القومي من جديد مع بداية عام 2001. وبالنسبة لمارتن إنديك, فقد عين سفيراً لدى إسرائيل حيث بقي في المنصب حتى بعد نهاية فترة حكم كلنتُن ومجيء بوش الأصغر. أما دينيس روس, فكان هو الأكثر نفوذاً, حيث بقي في منصبه كمشرف عام على السياسة الخارجية الأميركية منذ عام 1983 وحتى نهاية عام 2000, لا يهمه تغير الحكومات والرؤساء. لذلك, يمكن وصفه بحق بأنه صانع ومهندس السياسة الخارجية الأميركية والمشرف على تنفيذها في الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين. وقد أرسى دعائم السياسة الخارجية الأميركية بشكل يكون التعامل فيه بين الولايات المتحدة والدول الأخرى على أساس مواقف تلك الدول من إسرائيل. ومع مجئ كلنتُن إلى الحكم, ابتدع دينيس روس لنفسه منصب الممثل الرئاسي, أي أنه كان يمثل الرئيس (الذي كان غارقاً في فضائحه وفي الملاحقات القانونية المتعلقة بها), خاصة فيما يتعلق بمسار عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. والحقيقة أنه كان يمثل إسرائيل, وليس الولايات المتحدة. وكان الإسرائيليون يستخدمونه كورقة ضغط ضد الفريق الفلسطيني المفاوض, كما اشتكى وأعلن أعضاء الفريق مراراً. وقد عاد دينيس روس لمعهده, حيث يعكف على كتابة مذكراته. وجملة القول أن هذا مثال يوضح كيفية قيام المنظمات الصهيونية بالسيطرة على صنع السياسة التي تتبعها الحكومات الأميركية المختلفة.

وكان التقرير الذي صدر عن معهد واشنطن في عام 1988 تحت عنوان "البناء من أجل السلام" مثالاً على كيفية إعداد تلك التقارير وكيفية تبنيها من قبل الحكومة الأميركية. فقد اشتركت في إعداد ذلك التقرير مجموعة من الباحثين والسياسيين برئاسة والتر مونديل (الديمقراطي) ولورنس ايغلبرغر (الجمهوري). وقد أصبح التقرير إحدى الوثائق الرئيسة التي استند عليها تخطيط السياسة الأميركية في إدارة بوش التي تسلمت الحكم في بداية عام 1989, كما تولى ستة من الذين اشتركوا في إعداده مناصب عليا في تلك الإدارة (كما ورد في تقرير المعهد المنشور في عام 2000). فتم تعيين إيغلبرغر في منصب نائب وزير الخارجية حتى استقالة جيمس بيكر ليتفرغ لإدارة الحملة الانتخابية للرئيس بوش, في أواخر عام 1992, فتولى منصب وزير الخارجية بدلاً منه. أما دينيس روس, الذي كان المشرف الرئيس على إعداد التقرير, فكان مستشار بوش للشئون الخارجية أثناء حملته الانتخابية في عام 1988. وبعد نجاح بوش, تم تعيينه مديراً لمكتب تخطيط السياسة في وزارة الخارجية. وهكذا, فإنه كان كبيراً للمستشارين السياسيين لوزير الخارجية, جيمس بيكر. وبالنسبة لريتشارد هاس, الذي كان من المشرفين الأساسيين على إعداد التقرير, فإنه كان في نفس الوقت مستشاراً لروبرت دول (الذي كان يتنافس مع جورج بوش على ترشيح الحزب الجمهوري, ولكنه فشل في ذلك). وبعد الانتخابات, تم تعيينه مديراً لمكتب الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي.[23]  

    وفي عام 1992, قام المعهد بتنظيم ندوة لتقييم العلاقات الأميركية~الإسرائيلية, صدر عنها تقرير ختامي بعنوان "شراكة دائمة." وقد سُمي أحد عشر عضواً ممن وقعوا على ذلك التقرير لمناصب عليا في إدارة كلنتُن. فتم تعيين أنتوني ليك مستشارا لكلنتون لشئون الأمن القومي. وعينت مادلين أولبرايت سفيرة للولايات المتحدة في الأمم المتحدة, ثم وزيرة للخارجية في فترة ولايته الثانية. وعين ستيوارت إيزنستات نائباً لوزير التجارة, و ليس أسبن وزيراً للدفاع (كما جاء في تقرير المعهد الصادر في عام 2000). وارتقى دينيس روس بنفسه إلى منصب المبعوث الرئاسي الى الشرق الأوسط, وحافظ على منصبه حتى بعد تغيير الإدارة من جمهورية إلى ديمقراطية. كما بقي كل من مارتن إنديك وأيرن ديفد ميللر في منصبيهما أيضاً, على الرغم من تغير الإدارة الأميركية. وأخيراً, فإن دانيال كيرتزر قد عُين سفيراً للولايات المتحدة في مصر, في عام 1997. وكان ريتشارد هاس الاستثناء الوحيد من بين جميع الموقعين على التقرير. إذ لم يأخذ منصباً في إدارة كلنتُن.[24]

    أما بالنسبة لمحتوى تلك التقارير التي يصدرها المعهد, فإن تقرير عام 1988 يقدم نموذجاً على ربط السياسة الأميركية بأمن إسرائيل. فقد لاحظ التقرير بأن انتشار الصواريخ الذاتية الدفع (البالستية) والأسلحة الكيميائية في الشرق الأوسط يهدد أمن واستقرار إسرائيل. وبصفاقة عجيبة, نادى التقرير بأنه لا يمكن ضمان أمن إسرائيل إلاّّ بالحفاظ على التفوق العسكري الإسرائيلي على جميع "الدول" العربية مجتمعة. لذلك, ينبغي إنهاء ذلك التهديد (أي تجريد الأقطار العربية من أسلحتها الاستراتيجية), حتى تستمر إسرائيل بكونها القوة الوحيدة في المنطقة التي تمتلك الأسلحة الذرية والكيميائية والجرثومية. هذا هو تصور الاستقرار في الشرق الأوسط كما يراه صهاينة معهد واشنطن, والذي تلتزم به الإدارات الأميركية المتعاقبة, أي سيطرة إسرائيلية كاملة وتفوق تام في مجال الأسلحة الاستراتيجية.

        واستمر نفس التصور في تقارير أخرى صدرت عن المعهد. ففي تقرير كيروس الذي صدر في عام 1989, كان التركيز على العراق, الذي حذَّر التقرير بأنه قد أصبح منتجاً كاملاً للأسلحة الكيميائية. واقترح التقرير الخطوات التي يمكن للولايات المتحدة اتباعها للتصدي للتحدي العراقي. وكان تقرير ايزنستات, الصادر في عام 1990, أكثر تركيزاً من سابقيه. فقد حذر من أن العراق ستكون لديه القدرة على إنتاج الأسلحة الذرية في خلال فترة تمتد من خمس إلى عشر سنوات. وحذر التقرير من أن التهديد العراقي لإسرائيل هو تهديد حقيقي بسبب القدرات الكيميائية والجرثومية والصاروخية العراقية. كما حذر من عواقب اكتمال مشروع مدفع بابل, الذي من شأنه أن يتيح للعراق أن يضع أقماراً صناعية في الفضاء الخارجي يمكن استخدامها في جمع المعلومات لأغراض عسكرية. وخلص التقرير إلى القول بأن تلك القدرات العراقية قد أوجدت حالة من التوازن بين العراق وإسرائيل. وبالطبع, فإن ذلك غير مقبول لمعهد واشنطن والعاملين فيه, لأنهم يقرنون الاستقرار في المنطقة بالتفوق العسكري الإسرائيلي, ولن يسرهم أن يروا أي نوع من التوازن الاستراتيجي بين العرب وإسرائيل.

        وتَمَثَّلَ العامل الثاني (الذي أثر على الرئيس بوش في اتخاذ قرار الحرب) في مجلس العلاقات الخارجية, الذي تم تأسيسه في السنوات الأولى التي تلت الحرب العالمية الأولى. فقد عاد ممثلو أميركا في مؤتمر السلام الذي انعقد في باريس, وهم غير راضين لا عن درجة استعدادهم للمفاوضات ولا عن نتائج المؤتمر. وقد تكوَّن لديهم اعتقاد بأن القوة الاقتصادية المتنامية للولايات المتحدة ينبغي أن تؤدي إلى المزيد من المشاركة والزعامة الأميركية في الشئون العالمية. لذلك, فكر بعضهم في تأسيس منتدى للخبراء من أجل التخطيط للسياسة الخارجية الأميركية.[25]

        وهكذا, تأسس مجلس العلاقات الخارجية في عام 1921, وذلك بدمج إحدى جماعات النقاش التي كانت تجمع رجال أعمال من نيويورك ومعهد الشئون الدولية, الذي كان يتألف من عدد من السياسيين وأساتذة الجامعات. ومنذ ذلك الحين, أصبح المجلس الجهة الأولى المسئولة عن توجيه السياسة الخارجية الأميركية والتخطيط لها. وهذا يعني أن المجلس قد أصبح هو الجهة التي تقرر ماهية المصالح القومية الأميركية. والمذهل أنه مؤسسة خاصة تعمل بصفة أساسية لمصلحة كبرى المؤسسات الاقتصادية الخاصة التي تموله.

ومثال على عمل المجلس أنه قد بدأ في التخطيط للسياسة الخارجية الأميركية لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى قبل عام من دخول أميركا في تلك الحرب, أي في عام 1940. وقد كان العامل الرئيس الذي ارتكز عليه تخطيط المجلس للسياسة الخارجية الأميركية آنذاك يتمثل في دمج أوروبا الغربية بعد الحرب في اقتصاديات "المنطقة الكبرى," التي تشمل نصف العالم الغربي, وآسيا, وكتلة الإمبراطورية البريطانية في ذلك الحين. ولم يكن أعضاء المجلس الذين اخترعوا تلك "المنطقة الكبرى" موظفين رسميين, وإنما مواطنون يعملون في مؤسسات خاصة, جلهم من أصحاب البنوك التي لها مصالح عالمية, ومن المديرين التنفيذيين للشركات الكبرى, والخبراء المقربين منهم من أساتذة الجامعات, والباحثين, والصحفيين. 

    وخلال التسعينات, كان المجلس مقتصراً على 650 عضواً, أربعمائة من نيويورك ومائتين وخمسين من باقي الولايات. ويمثل هؤلاء أبرز رجال الأعمال والمهنيين في البلاد (ولكن مع السيطرة الكاسحة للأغلبية من الأعضاء المنتمين لنيويورك التي تسكنها أكبر تجمع يهودي في العالم بعد إسرائيل). وهكذا, فإن المجلس يتضمن أعضاء يمثلون كبريات الشركات مثل شركة ج ب مورغان, وأساتذة من جامعات الصفوة التي لا تقبل إلاّ أبناء الطبقة العليا, ومحامين متخصصين في القضايا القانونية الدولية, وصحفيين مشهورين تنشر مقالاتهم في مئات الصحف في نفس الوقت, وموظفين من وزارة الخارجية, ورجال دين.[26]

    ويأتي تمويل المجلس لمشروعاته من مؤسسات وقفية يديرها رجال أعمال من الأعضاء المسيطرين على المجلس. ويصبو المجلس لتحقيق أهدافه من خلال جماعات النقاش, والدراسات البحثية, والأبحاث التي تماثل الكتب حجماً, والمقالات التي تغطي العديد من الدول والموضوعات, والتي تنشر في مجلة أبحاث المجلس المعروفة باسم "شئون خارجية."[27] ومثال على النفوذ الكبير الذي يتمتع به المجلس ومجلته, فإن سياسة "الاحتواء" ضد الاتحاد السوفيتي كانت قد شرحت لأول مرة في مقالة كتبها جورج كينان, أحد السفراء الأميركيين السابقين, ونشرها في مجلة "شئون خارجية."[28]

        ومن نافلة القول أن الوكالات والإدارات الحكومية المختلفة لها مجموعات أبحاث خاصة بها, والتي تسهم في تخطيط السياسة الخارجية الأميركية. لكن المؤسسات الخاصة في ملكيتها وتمويلها, مثل مجلس العلاقات الخارجية, تلعب دوراً أساسياً في تخطيط السياسة الخارجية. فمثل هذه المؤسسات هي التي تأتي بالخطوط العريضة, التي تتبعها مختلف الوكالات الحكومية عند قيامها بالتخطيط لنفسها.

        وقد اتخذ مجلس العلاقات الخارجية موقفاً معادياً للعراق منذ نهاية الحرب العراقية~الإيرانية. وهذا الموقف موثق في المقالات التي نشرت في مجلة "شئون خارجية" التابعة له. ففي إحدى المقالات, حذَّر فؤاد عجمي من النوايا العراقية تجاه الكويت.[29] وفي مقالة أخرى, وصفت شيرين هنتر بأن للعراق يداً ثقيلة موجهة للكويت. وبالإضافة إلى ذلك, فإن تدخله في لبنان (كذا !) قد أعاد بعض "المخاوف العربية القديمة من الطموحات العراقية."[30] أما جوزف ناي, فقد أشار إلى أن العراق كان هو الطرف الذي استخدم الأسلحة الكيميائية والصواريخ ذاتية الدفع خلال الحرب العراقية~الإيرانية. وأضاف بأن تلك الحقيقة قد "ألقت الضوء على الأخطار التي يمثلها انتشار هذه الأسلحة."[31] وصنف سورينسين العراق بأنه أحد الدول المعادية للولايات المتحدة في العالم الثالث, بالإضافة إلى إيران وليبيا وكوبا وكوريا الشمالية, والذي يستدعي عداؤها استمرار الإنفاق العسكري في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.[32] أما أكثر المقالات عداء للعراق في هذه المرحلة, فقد كتبها باري روبِن الذي نادى بأن ترتكز السياسة الخارجية الأميركية في التسعينات على مسار السلام العربي~الإسرائيلي في المقام الأول, ثم حذر من "مشكلة الدول المتطرفة, العدوانية, الطموحة, التي يمكن أن تحاول السيطرة على المنطقة, وتخرب التسوية السلمية للصراع العربي~الإسرائيلي, وتعارض مصالح الولايات المتحدة, وترعى الإرهاب (كلمة الإرهاب يستخدمها الصهاينة ومؤيدوهم للإشارة لكفاح الشعب العربي ضد الاحتلال الإسرائيلي), وتقلب الأنظمة الحليفة للولايات المتحدة. والعراق هو أهم هذه الدول, نظراً لانتصاره على إيران, ولموارده النفطية الهائلة, وجيشه الضخم, وقيادته التي لا تعرف الخوف."[33] وبمثل هذه المقالات التحريضية, أسهم مجلس العلاقات الخارجية في التأثير على الإدارة الأميركية لتتبنى موقفاً معادياً للعراق.

        أما العامل الثالث الذي أثر على قرار الحرب, فتمثل في مجلس الأمن القومي, الذي أعد تقرير الإدارة عن استراتيجية الأمن القومي, وقدمه الرئيس بوش للكونغرس في أوائل عام 1990. وقد ركز التقرير على أربعة أهداف ومصالح للأمن القومي الأميركي.[34] ولم يتضمن التقرير أياً من المصالح التي يمكن للغزو العراقي للكويت, أو لإنهائه بطريقة سلمية, أن يهددها. فليس من المعقول الادعاء بأن الغزو العراقي للكويت كان أكثر خطراً على الاستقرار العالمي, أو على ضمان استمرار الصادرات النفطية من الخليج العربي (كمصلحة أميركية وغربية معلنة) من الحرب العراقية~الإيرانية. وليس من المعقول أيضاً الادعاء بأن الغزو العراقي للكويت كان تهديداً للاستقلال والاقتصاد الأميركي, أو لحقوق الإنسان والمؤسسات الديمقراطية في الدول الصديقة والحليفة لأميركا. ولأنه لم يكن بإمكان موظفي مجلس الأمن القومي استخدام تلك الحجج الواهية بشكل مقنع, فإنهم استخدموا وسائل أخرى لتبرير التدخل الأميركي ضد العراق, مثل اللجوء إلى استخدام المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.

        وكان ريتشارد هاس هو مهندس قرار الحرب, وكان قد عُين من قبل برنت سكوكروفت (مستشار الرئيس بوش للأمن القومي) كخبير للشرق الأوسط في المجلس. فوضع أفكاره في خطة مكتوبة في أواخر أغسطس/آب بهدف جعل استخدام القوة مقبولاً للكونغرس, والحكومات العربية, والأمم المتحدة. فقد اقترح أن تبدأ الإدارة بالتشاور أولاً مع حلفاء أميركا من العرب, ومن ثم مع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي. وركز على أن أميركا لا ينبغي أن تتقدم للمجلس بأي مشروع قرار إلاَّ بعد تأكدها من حصوله على التأييد الكافي من الكتلة العربية وبعد أن تتأكد بأن الأصوات الضرورية متوفرة لاتخاذه. ونبه هاس أنه في حالة عدم نجاح الخطة, فينبغي على الولايات المتحدة أن تتراجع عن جهودها في الأمم المتحدة وتقوم بدلاً من ذلك بجهد مستقل يؤدي إلى تأليف قوة متعددة الجنسيات من الدول الحليفة والدول العربية الصديقة لأميركا. وسيكون ذلك الجهد مبني على أرضية القرار الأولِي الذي أدان العراق, والقرارات اللاحقة, والمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة, مع طلب من أمير الكويت بالتدخل.[35]

    ومنذ ذلك الحين, وحتى 15 يناير/كانون ثاني 1991, لم تفعل إدارة بوش شيئاً يخالف خطة هاس تلك. وهذا يدل على الأهمية القصوى للأدوار التي يلعبها "الخبراء" في صنع قرارات السياسة الرئيسة. والحقيقة أن الرئيس ومستشاره للأمن القومي ليس لديهما الوقت الكافي لمعالجة كافة الأمور الحيوية بنفسيهما. ونتيجة لذلك, فإن العديد من المشكلات الهامة, مثل السلام في الشرق الأوسط, لا تستحوذ إلاَّ على اهتمام ضئيل منهما.[36] لكن ترك اتخاذ مثل تلك القرارات للخبراء غير المنتخبين يشكل مشكلة للديمقراطية. والحل لهذه المشكلة يكمن في المحافظة على نظام الرقابة والتوازنات الذي نص عليه الدستور الأميركي. وهذا يتطلب تعيين عدد كاف من "المستعربين" في الإدارة لموازنة نفوذ الخبراء الموالين لإسرائيل فيها. ومجلس الأمن القومي, على وجه الخصوص, في حاجة لوجود توازن داخله, نظراً لإشرافه على باقي الوكالات والإدارات الحكومية.[37] 

    وتمثل العامل الرابع, الذي أثر على قرار الحرب, في المؤسسة العسكرية الأميركية. فقد رأت هذه المؤسسة في الغزو العراقي للكويت فرصة ذهبية لها لتحقيق نصر حاسم يساعدها في استعادة عافيتها بعد اهتزاز صورتها نتيجة للهزيمة التي لحقت بها في حرب فيتنام, والتي خلقت شبحاً ظل يطارد قادتها من أمثال كولن باول, ونورمان شوارزكوف, وشك هورنر, وجون يوسك. وقد عبر الفريق هورنر عن ذلك بقوله: "قبل الحرب, بدأنا نصدق الصحف التي قالت بأننا كنا غير أكفاء, وأن معدَّاتنا لا تعمل, وأن جنودنا لا يصلحون لشيء, وأن قادتنا العسكريين أغبياء. فكان لا بد لنا أن نثبت بأنهم مخطئون."[38] وهكذا, فانه عندما وصلت الأزمة إلى مرحلة خطيرة في 24 يوليو/تموز 1990, طلب كولن باول من شوارزكوف أن يرسم خطة طوارئ لما سيكون عليه رد الفعل الأميركي في حالة عبور القوات العراقية للحدود الكويتية.[39] وفي الليلة التي سبقت الغزو, أعلنت وزارة الدفاع عن خطتها العسكرية البعيدة المدى (استراتيجيتها)  للتسعينات, والتي كانت تهدف إلى التصدي لنمو القوى الإقليمية, خاصة في الشرق الأوسط.[40]

        وقد مثلت الحرب أيضاً فرصة لا تعوض للولايات المتحدة لتبين للعالم أنها قد أصبحت القوة العظمى الوحيدة الباقية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. ففي 8 فبراير/شباط 1991, وصل كل من وزير الدفاع (دِك شيني) ورئيس هيئة الأركان المشتركة (كولن باول) إلى الرياض للتأكد من استعداد قواتهما للحرب البرية. وبعد أن استمع شيني لشوارزكوف وللقادة العسكريين الآخرين في القيادة المركزية التابعة له, خاطبهم قائلا: "لم يمر وقت في تاريخ أمتنا تمكنت فيه العسكرية الأميركية من تنفيذ عملية أكثر نجاحاً واتقاناً." وأضاف باول على ذلك قائلاً: "لا أستطيع أن أصدق كم رفعت هذه الأزمة (وردُّنا عليها) من شأن بلادنا. هذه هي الطريقة التي يفترض أن تتصرف بها القوة العظمى الوحيدة الباقية في العالم."[41]

    أما العامل الخامس الذي أثر في قرار الحرب فتمثل في وزارة الخارجية, التي لم تفعل إلاَّ القليل لحل الأزمة سلمياً. فعندما وقع الغزو, كان وزير الخارجية ومستشاروه في موسكو. ولأنه كان في طريقه لزيارة منغوليا, فإنه ترك دينيس روس وبوب زيليك ومساعديهما في العاصمة السوفيتية ليناقشوا الأمر مع نظرائهم السوفيت. وقد تمكن دينيس روس من إقناع نظيره السوفيتي, تارشينكو, بالموافقة على إصدار تصريح مشترك يدين الغزو. وكان تاراشينكو متعاوناً جداً لدرجة أنه وافق على أن يقوم دينيس روس ومساعده (بيتر هاوسلونر) بكتابة التصريح, بدلاً من اشتراكه معهما في كتابته.[42]

        والحقيقة أن معظم ما فعلته وزارة الخارجية الأميركية بعد ذلك تمثل في إصدار تهديدات وإنذارات للعراق, بدلاً من التفاوض من أجل انسحاب القوات العراقية من الكويت. وكما هو موضح في الفصل الثامن, كان الرفض هو الرد الوحيد لإدارة بوش على كل مبادرة سلمية عرضت عليها. وبغض النظر عمن كان يحمل تلك المبادرات السلمية أو يقف وراءها, أصرت إدارة بوش على الانسحاب العراقي بدون مفاوضات, أو حتى بدون إعطاء وعد لمعالجة المشكلات الأخرى في الشرق الأوسط, لاحقاً.

        وبمجرد اتخاذ قرار الحرب, بدأت وزارة الخارجية استعداداتها لدعم المجهود الحربي من خلال العمل على إصدار سلسلة من قرارات الأمم المتحدة. فصدر القرار رقم 660, في 2 أغسطس/آب, الذي أدان الغزو ودعا إلى الانسحاب العراقي الفوري غير المشروط من الكويت. ثم صدر القرار رقم 661, في 6 أغسطس/آب, الذي فرض العقوبات الاقتصادية على العراق. وتلا ذلك إصدار تسعة قرارات أخرى, في الفترة الواقعة ما بين 9 أغسطس/آب و 29 نوفمبر/تشرين ثاني, ولم يتضمن أي منها أية محاولة لحل المشكلة بالطرق السلمية (لمزيد من التفصيل, أنظر الملحق 7.أ).

        وكان آخر تلك القرارات يحمل رقم 678, وهو الذي أجاز استخدام جميع الوسائل الضرورية (أي القوة) لتحقيق انسحاب القوات العراقية من الكويت إذا لم تنسحب قبل 15 يناير/كانون ثاني 1991. حتى اجتماع جنيف الشهير, بين جيمس بيكر وطارق عزيز, الذي عقد في 9 يناير/كانون ثاني 1991, كان مصمَماً بحيث يتجنب حدوث أية تسوية سلمية. فالرسالة التي حملها بيكر لعزيز لم تكن إلاّ إنذاراً مليئاً بالتهديدات لدرجة أن طارق عزيز لم يكن بإمكانه أن يقبلها. وهكذا, فكل ما فعلته وزارة الخارجية تمثل في بحثها عن وسائل لتعزيز قرار الحرب, بدلاً من البحث عن حلول سلمية.

        وبهذه الطريقة, فإن وزارة الخارجية لم تقم بما هو متوقع منها, ألا وهو استخدام الدبلوماسية لتجنب الحرب. أما سبب عدم حدوث ذلك, فانه يعود إلى استمرار وزراء الخارجية الأميركيين المتعاقبين في عدم تعيين العرب الأميركيين في الوزارة عموماً, وفي مناصبها العليا بشكل خاص, الأمر الذي ترك أعوان إسرائيل (الذين غالباً ما يطلق عليهم "خبراء" الشرق الأوسط "والمتخصصين" فيه) في وضع احتكاري, كما وضحت إحدى الدراسات التي أجريت في عام 1986.[43] ولو كان هناك عدد كاف من العرب الأميركيين و"المستعربين" في المناصب العليا في الوزارة, لقاموا بجهود جدية لتجنب الحرب. وحتى بعد الحرب بأكثر من عشرة أعوام, لا تزال وزارة الخارجية الأميركية (شأنها في ذلك شأن مجلس الأمن القومي)  تعاني من عدم تحقق مبدأ التوازن والرقابة بين العاملين فيها, خاصة أولئك الذين يشغلون المناصب العليا. فلا يزال العرب الأميركيون و"المستعربون" مستبعدين من العمل فيها.

        أخيراً, فان رئيسة الوزراء البريطانية, مارغريت تاتشر, لعبت دوراً فريداً في دفع الرئيس بوش باتجاه اتخاذ قرار الحرب. فقد تحدث بوش بإيجاز للصحفيين في صبيحة 3 أغسطس/آب, أي في اليوم التالي للغزو. وعندما سألته مراسلة يونايتد برس, هيلين توماس, عما إذا كان يفكر في التدخل, أجاب بالنفي. وعن ذلك كتب في مذكراته: "الحقيقة أنني في تلك اللحظة لم يكن لدي أية فكرة عن خياراتنا ... لذلك كنت آمل أن أعبِّر عن عقل مفتوح بشأن كيفية تعاملنا مع الموقف, إلى أن علمت بالحقائق كلها." وفي نفس الوقت, فإن البريطانيين قد أعلنوا أن الغزو تهديد خطير للسلام في المنطقة. وهكذا, فإنهم عزموا أمرهم قبل أن تتقابل رئيسة وزرائهم مع الرئيس بوش, في مدينة أسبن بولاية كولورادو.[44] 

وعندما تقابلت تاتشر مع بوش, بعد ظهر ذلك اليوم, لاحظت أن "جورج كان متردداً قليلاً" ولكنها "استطاعت أن تقوي من عزمه."[45] والحقيقة أن هذه الملاحظة تقدم دعماً لمقولة أن الرئيس بوش لم يكن يعرف ما سيفعله إلى أن تقابل مع "السيدة الحديدية, التي لم يُعرف عنها أنها تأخذ بالحلول الوسط, عندما يحين وقت التحدي,"[46] كما وصفها جيمس بيكر. وكان موقف تاتشر من الأزمة والغزو في غاية الوضوح. فبريطانيا لا تزال تنظر للكويت على أنها جائزة حصلت عليها أثناء فترة الاستعمار المباشر, ولم يعد باستطاعتها أن تخسرها. لذلك, كان ضمان وجود الولايات المتحدة إلى جانبها, خلال الأزمة, أمراً ضرورياً لاستعادة الكويت من العراق. لذلك, استمرت تاتشر في تحريضها للرئيس بوش ليأخذ موقفاً حاسماً ضد الغزو قائلة بأن العراق لو خرج من الأزمة محققاً أهدافه, فإن دويلات الخليج لن تكون آمنة بعد ذلك. وحذرت من أن "العراقيين لن يتوقفوا عند الكويت." ولذلك "علينا أن نفعل كل شيء ممكن" من أجل إيقافهم." وفي النهاية, اقترحت على الرئيس بوش أن يقوم بمكالمة الملك فهد ليعرض عليه المساعدة العسكرية.[47] وبالفعل, نفذ بوش ما طلبت, ووافق الملك فهد على استقبال 100,000 جندي أميركي في بلاده, في الحال.[48]

        وفي تحريضها للرئيس بوش لاستخدام القوة لإخراج القوات العراقية من الكويت, ذكرت له تاتشر ماذا فعلت بالأرجنتين عندما تجرأت واستعادت جزر الفولكلاند, قبل ذلك بثمانية أعوام. وقد أثمرت جهودها في التأثير عليه لدرجة أنه اقتبس حتى كلماتها التي ردت بها على العمل الذي قامت به الأرجنتين. فأعلن في 5 أغسطس/آب بأن "هذا الوضع لن يستمر."[49] وفي 6 أغسطس/آب, التقت تاتشر مع بوش مرة أخرى (ولكن في البيت الأبيض هذه المرة). وهناك, حثته على استعمال المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة, التي تعطي للدول الأعضاء الحق في الدفاع عن نفسها لحماية مصالحها القومية. وكانت مشكلة الرئيس بوش أن تلك المصالح القومية لم تكن أصلاً واضحة لديه. أما المصالح الاستعمارية البريطانية, فكانت واضحة ويتم التعبير عنها بجلاء. فقد كانت تاتشر "عضوة مؤسِسة في المدرسة الاستعمارية المتشددة, التي يمكن وصفها بالشعار المعروف: "افعل ما تشاء الآن, وتدبر نتائجه فيما بعد."[50]

        ولم يتوقف تحريض تاتشر لبوش على الأسبوع الأول بعد الغزو. ففي 17 أكتوبر, حثته على اللجوء لاستخدام القوة حتى بدون الحاجة إلى أي عمل استفزازي من جانب العراق. ومضت قائلة بأنها تفضل الذهاب إلى الحرب متى قدَّرت أن ذلك مناسبا لها, على أن تنتظر حتى يحدث ذلك الاستفزاز. والحقيقة أنها لم تكن تحثه على الحرب فقط, وإنما على شنها على العراق في الوقت التي كانت تراه مناسباً, بينما كان بوش لا يعرف بالضبط متى سيشنها. فأوضحت له أن الخيار العسكري سيكون متاحاً لوقت قصير فقط, أي عندما يكون الطقس غير حار في منطقة الخليج العربي, وبالذات بين نوفمبر/كانون أول ومارس/آذار.[51]

    وفي 18 أكتوبر/تشرين أول, وافق الرئيس بوش على رأي تاتشر القاضي بأنه ليس لديهما الوقت الكافي للانتظار حتى تحقق العقوبات الاقتصادية الغرض المطلوب. فقد أخبره "خبراؤه" بأنه ليس من المناسب شن الحرب أثناء شهر رمضان المبارك, الذي كان سيبدأ في 17 مارس/آذار وينتهي في 14 أبريل/نيسان. وبعد ذلك بأكثر من شهرين, يأتي موسم الحج الى الديار المقدسة. وبعد الحج, تصبح العمليات العسكرية في غاية الصعوبة نظراً للحر الشديد. وهكذا, جعلته هذه العوامل يوافق مع تاتشر على ألاّ يتأخر شن الحرب على العراق عن يناير/كانون ثاني أو فبراير/شباط 1991.[52]

        وجملة القول أن المستشارين والمسؤولين المحيطين بالرئيس بوش, وحتى الحلفاء كما في حالة تاتشر, قد اختاروا الحرب كحل للأزمة منذ البداية. ولما كانت هذه هي الحال بالنسبة لهم, فإن معظم الأنشطة التي قاموا بها بعد ذلك انصبت على شرح قرارهم للرأي العام. وعلى العموم, كان خيار الحرب الذي اتفقوا عليه متوافقاً مع تغيير السياسة الأميركية تجاه العراق, الذي حدث قبل الغزو بأشهر عديدة, والذي أصبح العراق على ضوئه مصنفا في خانة الأعداء.

 

تغيير السياسة الأميركية تجاه العراق

 

        خلال الحرب العراقية~الإيرانية, التي امتدت من عام 1980 إلى عام 1988, حافظت إدارة ريغَن على علاقات طيبة مع العراق, في معظم الأوقات.[53] وقد بدأت العلاقات العراقية~الأميركية في التحسن بعدما طلبت الحكومة العراقية من أبو نضال مغادرة العراق. وفي المقابل, قامت إدارة ريغَن بإزالة اسم العراق من قائمة الدول المصنفة على أنها ترعى "الإرهاب" وهو اصطلاح إسرائيلي تتقيد به الحكومات الأميركية المتعاقبة في إشارتها للأقطار العربية التي تساند كفاح الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي. وبعد ذلك بعام, أعيدت العلاقات الدبلوماسية بين العراق والولايات المتحدة بعد انقطاع دام سبعة عشر عاما. وخلال الحرب العراقية~الإيرانية, كان العراق يحصل على معلومات استخبارية عسكرية أميركية. وعندما بدأ الإيرانيون في مهاجمة ناقلات النفط, في عام 1987, بهدف حرمان العراق من عائدات تصدير النفط الهامة, وافقت الولايات المتحدة على رفع العلم الأميركي على ناقلات النفط الكويتية وأرسلت سفناً حربية لحمايتها.[54] وقد أدى ذلك التدخل الأميركي إلى تمكين العراق من الاستمرار في الحصول على العائدات النفطية من خلال المبيعات الكويتية.

        وبدأت السياسة الأميركية تجاه العراق في التغير مباشرة بعد انتهاء الحرب العراقية~الإيرانية. فقد خلص "المتخصصون" في الوكالات والإدارات الحكومية المختلفة إلى الاستنتاج بأن العراق قد أصبح في وضع يبعث على القلق لأسباب عديدة. فأولاً, كان لا يزال يقدم المساندة لبعض التنظيمات الفلسطينية, التي يصنفها أولئك المتخصصون على أنها "إرهابية." ثانياً, أصبح العراق يملك أسلحة كيميائية وجرثومية, كما أنه استخدم الأسلحة الكيميائية أثناء الحرب العراقية~الإيرانية. ثالثاً, أصبح العراق ممتلكاً للصواريخ المتوسطة المدى ذاتية الدفع. أخيراً, فًن العراق كان يحاول بناء قدرات للحصول على الأسلحة النووية.[55] 

      وإذا ما تم تحليل هذه الأسباب الأربعة بموضوعية, يتبين لنا هشاشتها كعوامل حقيقية يمكن أن تؤدي إلى تغيير جذري في السياسة الأميركية تجاه العراق. فأولاً, لم يكن العراق هو القطر العربي الوحيد الذي يساند المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال العسكري الإسرائيلي. ولو أن السياسة الخارجية الأميركية تمارس على أساس من العدالة وباستخدام نفس المعايير, لتم توجيه التهديد لإسرائيل بأنها ستصبح في خانة الأعداء, وذلك بسبب عدوانها المستمر على الأمة العربية. فقد احتلت أراضيَ من ثلاثة أقطار عربية في عام 1967, دون أن تبدي احتراما للقرارات الدولية التي تدعوها للانسحاب منها, خاصة القرارين 242 و 338. كذلك, فإنها قد احتلت جنوب لبنان منذ عام 1978, ورفضت الانسحاب منه بالرغم من صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 425, الذي دعاها لذلك. وهكذا, فإن لوم العراق والأقطار العربية الأخرى لمساندتها للكفاح الفلسطيني ما هو إلاّ انقياد واضح لسياسة إسرائيل وحماية لاحتلالها للأراضي العربية ومساندة لنهجها العدواني تجاه الأمة العربية. ثانياً, لم يكن العراق هو الوحيد في الشرق الأوسط الذي يمتلك الأسلحة الكيميائية والجرثومية والقدرات الصاروخية, فإسرائيل لديها هذه الأسلحة والقدرات أيضاً. ثالثاً, إسرائيل لديها أسوأ ملف لانتهاك حقوق الإنسان في الشرق الأوسط. فقد قتلت القوات الإسرائيلية وجرحت الآلاف من الفلسطينيين, بما في ذلك الأطفال. كما اعتقلت بدون محاكمة وعذَّبت عشرات الآلاف من الفلسطينيين الآخرين منذ عام 1967, خاصة خلال الانتفاضة الأولى التي بدأت في ديسمبر/كانون ثاني 1987. ومارست نفس السياسة ضد المدنيين اللبنانيين أثناء اجتياحها لجنوب لبنان ابتداء من عام 1978, وغزوها للبنان في عام 1982, وطيلة فترة احتلالها لجنوبه. أخيراً, فإن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تمتلك الأسلحة الذرية. وقد تمكنت من ضمان احتكارها لامتلاك هذه القدرة عندما ضربت المفاعل الذري العراقي, في عام 1981, تمشياً مع سياستها الثابتة في منع الأقطار العربية من امتلاك الأسلحة الذرية.[56]

وقد تعاونت الإدارات الأميركية المتعاقبة (كلها جميعاً من جونسون إلى ريغَن) مع إسرائيل, وساندتها في تحقيق ذلك الهدف. ووصل الحال بالولايات المتحدة لدرجة أنها انسحبت من وكالة الطاقة الذرية الدولية, في عام 1982, احتجاجا على رفض الوكالة قبول أوراق اعتماد إسرائيل كعضو فيها. وكانت الوكالة تحتج بذلك على ضرب إسرائيل للمنشآت الذرية العراقية, في عام 1981, لأن العراق عضو موقع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة الذرية. ولم تعد الولايات المتحدة للوكالة الدولية إلاّ بعد أن تم قبول إسرائيل فيها. كذلك فًن الولايات المتحدة قد غضت الطرف عن البرنامج الذري الإسرائيلي في الستينات. وأدى ذلك إلى تمكن إسرائيل من إنتاج الأسلحة الذرية بكميات كبيرة, والى مزيد من التقدم في أبحاثها في هذا المجال في الثمانينات.[57] ومن ذلك يتبين أنه لو كان لدى "المتخصصين" في إدارة بوش ذرة من الموضوعية, لوجهوا اللوم إلى إسرائيل على مسئوليتها عن سباق التسلح في الشرق الأوسط, بإصرارها على استمرار احتلال الأراضي العربية وإدخالها الأسلحة الذرية إلى المنطقة. ولكنهم بدلاً من ذلك, وجهوا اللوم إلى العراق واعتبروه خطراً على إسرائيل, التي يضعون مصلحتها في المقام الأول من أولوياتهم.

وعلى ذلك, فإن السبب الحقيقي لاقتراح الخبراء والمتخصصين في إدارة بوش لتغيير السياسة الأميركية تجاه العراق كان رؤيتهم لبعض التغير في ميزان القوى في المنطقة, وهم يتبعون في ذلك (وبشكل أعمى) ما يراه الإسرائيليون. فقد عبَّر يتسحاك رابين, الذي كان وزيراً للدفاع الإسرائيلي, عن قلقه إزاء تنامي القدرات الصاروخية العراقية, وذلك في مارس/آذار 1988. وتبعه في ذلك شمعون بيرس, الذي عبَّر في يوليو/تموز من نفس العام عن مخاوف إسرائيل من أن الجيش العراقي المكون من خمسين فرقة يمكن أن يشكل تهديداً لإسرائيل. جاء ذلك مباشرة بعد قبول إيران وقف إطلاق النار, الذي أنهى الحرب العراقية~الإيرانية. وقد توصل رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي, دان شومرون, لنفس الاستنتاج. وفي 21 يوليو/تموز, 1988, حذَّر يتسحاك رابين العراق بألاَّ يستخدم الصواريخ التي تحمل أسلحة كيميائية ضد إسرائيل في المستقبل, وإلاَّ فإن إسرائيل سترد بأكثر من ذلك بمائة مرة (أي باستخدام الأسلحة الذرية).[58]

وهكذا, فإن إسرائيل قد صنفت العراق على أنه كان يشكل تهديداً لها قبل الأزمة العراقية~الكويتية بعامين تقريباً. وتلقف أعوان إسرائيل, العاملون في مختلف الوكالات والإدارات الحكومية والمؤسسات الخاصة المتنفذة, الرسالة الإسرائيلية بسرعة. وبدأوا جهودهم الحثيثة الهادفة إلى تغيير السياسة الأميركية تجاه العراق بشكل يتناسب مع الموقف الإسرائيلي. فقام دينيس روس ومعه مارتن إنديك وريتشارد هاس بكتابة تقرير معهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط (أحد روافد أيباك) الذي صدر في عام 1988, معبراً عن ذلك. وأصبح ذلك التقرير مرجعاً للسياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط منذ ذلك الحين.[59] والحقيقة أن هذا التقرير اعتمد على تقرير آخر كتبه دينيس روس واثنان آخران من "المتخصصين," قبل ذلك بتسعة أعوام. ففي ذلك التقرير الذي أعده روس في عام 1979, بمساعدة بول ولفويتس وجيفري كيمب, توقع ثلاثتهم بأن يكون العراق مصدر خطر على الكويت والسعودية في المستقبل. وبعد تقريرهم ذاك, تولى الثلاثة مناصب هامة في الإدارات الأميركية مكنتهم من التأثير في السياسة الخارجية الأميركية بحيث تتناسب مع الأهداف الإسرائيلية.[60]

ولو كانت هناك سياسة خارجية أميركية في الشرق الأوسط مستقلة عن السياسة الإسرائيلية, فإنه كان يمكن تفادي أزمة الخليج برمتها. والحقيقة أنه من المستحيل الإشارة إلى أي عنصر ثابت في السياسة الخارجية الأميركية نحو المنطقة غير التبعية العمياء للمصالح الإسرائيلية. ولا يمكن تصور حدوث سياسة أميركية مستقلة عن إسرائيل نظراً للسيطرة الهائلة لأعوان إسرائيل على المجتمع الأميركي, وبشكل يمكنهم من تقرير ماهية المصالح القومية الأميركية, والتي غالباً ما يجعلونها متطابقة مع المصالح الإسرائيلية. وعلى ذلك, فلا يمكن القول بأن التطورات العراقية الآنفة الذكر كانت تهدد المصالح القومية الأميركية في الشرق الأوسط لأن تلك المصالح غير موجودة بذاتها, وبمعزل عن المصالح الإسرائيلية. فانسياب النفط من منطقة الخليج العربي, مثلاً, مصلحة لجميع دول العالم المستوردة والمصدرة له, وليس فقط مصلحة قومية أميركية. ولكن, ما الذي فعله العراق تحديداً, وتسبب في إثارة خوف أعوان إسرائيل في إدارة بوش؟

بالإضافة إلى الأسباب الأربعة السابق ذكرها, أضاف أعوان إسرائيل "المتخصصون" في إدارة بوش عدة تطورات عراقية أخري, حدثت في أوائل عام 1990, واستعملت كتبرير لتغيير السياسة الأميركية تجاه العراق. فأولاً, أصبح العراق زعيماً لمعسكر "الرفض" العربي, الذي عبر عن رفض السلام المنقوص مع إسرائيل. ثانياً, أخذ العراق في التعبير عن استنكاره لهجرة اليهود السوفيت إلى إسرائيل. ثالثاً, أعلن الرئيس صدام حسين بأنه سيحرق نصف إسرائيل إذا ما أقدمت على مهاجمة العراق, كما فعلت في عام 1981.[61] رابعاً, أدى القبض على صحفي بريطاني إيراني الأصل بتهمة التجسس وإعدامه إلى القلق على ما يجري داخل العراق. خامساً, وجه الرئيس صدام حسين الاتهام إلى الولايات المتحدة بأنها كانت "تتدخل" في الأمور المحلية في منطقة الخليج العربي. وأخيراً, فإن القوات العراقية قد بنت ست قاذفات للصواريخ في الصحراء الغربية العراقية, الأمر الذي جعل المدن الإسرائيلية في متناول تلك الصواريخ.[62]

وإذا ما تم تحليل هذه التطورات بشكل موضوعي, يصبح من السهل إدراك أن معظمها مقترن بإسرائيل. ونتيجة لذلك, فمن الصعب الاستنتاج بأنها كانت تهدد المصالح الأميركية. ومن الأصعب فهم كيف أن العراق يمكن أن يكون مخطئاً نتيجة لتلك التطورات. فأولاً, لم يكن العراق هو القطر العربي الوحيد الذي رفض المعاهدة المصرية~الإسرائيلية. فالأقطار العربية كلها تقريباً قد رفضتها كصفقة ثنائية أضعفت الجهد العربي المشترك لتحرير الأراضي العربية من الاحتلال العسكري الإسرائيلي. وعلى إثر توقيع تلك الاتفاقية, تم إخراج مصر من الجامعة العربية, التي نقلت مركزها إلى تونس بدلاً من القاهرة. لذلك, فإنه ليس من الدقة ولا العدل لوم العراق وحده لما حدث. وأهم من ذلك أن مصر قد أعيدت إلى الجامعة العربية وعادت الجامعة العربية إلى القاهرة. وفي عام 1989, أصبحت مصر أحد الأعضاء الأربعة المؤسسين لمجلس التعاون العربي, الذي ضم العراق والأردن واليمن أيضاً.

ثانياً, بالنسبة للاستنكار العراقي لهجرة اليهود السوفيت إلى إسرائيل, لم يكن العراق أيضاً هو القطر العربي الوحيد الذي فعل ذلك. فأولئك اليهود السوفيت لم يعطوا تأشيرات هجرة للولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى, عن عمد, بهدف إرغامهم على التوجه إلى إسرائيل. ورأى العرب في ذلك التصرف نوعاً من التأييد للسياسات التوسعية لحكومة حزب الليكود الإسرائيلية, التي لم تبد أي اهتمام بالسلام. وعلى العكس, فقد زادت في جهودها الرامية إلى بناء مزيد من المستوطنات الإسرائيلية (لأولئك المهاجرين) في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وفي نفس الوقت, كان ملايين الفلسطينيين (ولا يزالون) محرومين من حق العودة إلى وطنهم.

ثالثاً, بالنسبة "للتهديد" الذي نسب إلى الرئيس صدام حسين بحرق نصف إسرائيل, فانه لم يكن تهديداً مطلقاً, ولكنه كان متوقفاً على قيام إسرائيل أولاً بمهاجمة العراق بالأسلحة الذرية.[63] فكان الهدف إنذار زعماء إسرائيل بألاّ يقوموا بتوجيه هجوم غير مبرر ضد العراق. أما إعدام الجاسوس البريطاني وبناء قاذفات الصواريخ, فقد عكسا قلقاً عراقيا من أن إسرائيل وحلفاءها الغربيين كانوا يدبرون شراً للعراق. ومع ذلك, فإن تهديد الرئيس العراقي (على وجه الخصوص) قد استخدم كذريعة من قبل أعوان إسرائيل, "المتخصصين," في إدارة بوش لتغيير سياسة الولايات المتحدة تجاه العراق.

وقد روى وزير الخارجية, جيمس بيكر, كيف اعتبر اثنان من أولئك "المتخصصين" ذلك الجزء من خطاب الرئيس صدام حسين بأنه النقطة التي ينبغي بعدها تغيير السياسة الأميركية نحو العراق لتصبح عدائية. فذكر أنه في اليوم التالي بعد الخطاب, بقي دينيس روس وبوب كيميت في مكتبه بعد اجتماع صباحي عادي لكبار العاملين بالوزارة, وذلك بهدف مناقشة هذا التطور الجديد معه. فأخبراه بأن خطاب "حرق إسرائيل" لا يمكن أن يتم التعامل معه كحدث معزول وعابر. وقال دينيس روس: "إنّ سياستنا مبنية على وهم مؤداه أن بإمكاننا أن نجعل هذا الرجل معتدلا." وأضاف بوب كيميت مؤيدا دينيس روس: "لا يمكننا" الاستمرار في ذلك بعد الآن. "إنني لم أعد مرتاحاً لهذه السياسة من الآن فصاعداً. هؤلاء أناس أشداء, وينبغي علينا أن نتعامل معهم بشدة. فالحوافز لم تفلح معهم, وقد حان الوقت لاستخدام العقوبات." ووافق الوزير بيكر على تغيير السياسة الخارجية الأميركية تجاه العراق (سمعاً وطاعة لدينيس روس وبوب كيميت), كما وافق على توصية كيميت بأن تطلب وزارة الخارجية اجتماعاً للجنة نواب الوزراء, بهدف "اتخاذ الخطوات" التي تؤدي إلى تبني سياسة الاحتواء نحو العراق. كما قرر إرسال احتجاج لوزارة الخارجية العراقية. وتنفيذاً لذلك, قام بوب كيميت, في 11 أبريل/نيسان 1990, بإرسال الاحتجاج إلى السفيرة الأميركية في بغداد, أبريل غلاسبي, لتوصله إلى المسئولين العراقيين. وجاء في ذلك الاحتجاج التحذيري "أن العراق سيكون على خط تصادمي مع الولايات المتحدة إذا ما استمر في الانخراط في الأعمال التي تهدد استقرار المنطقة, وفي تقويض المساعي الدولية للحد من التسلح, والسخرية من القوانين الأميركية."[64]      

    والواقع أن ذلك التغيير في السياسة الأميركية كان تتويجاً لإجراءات عديدة معادية للعراق, بدأت منذ أوائل عام 1990. فأولاً, ألغت الحكومة الأميركية خطة تقديم الضمانات التأمينية التي كانت تهدف إلى تشجيع مبيعات الحبوب للعراق. ثانياً, أوقفت الحكومة الأميركية محاولة عراقية للحصول على وسائل الإطلاق والأفران, التي قالت بأن بالإمكان استخدامها في إنتاج الأسلحة الذرية. ثالثاً, قامت الولايات المتحدة وبريطانيا والدول الأوروبية الأخرى باعتراض محاولات عراقية أخرى كانت تهدف للحصول على أجزاء يمكن استخدامها في تصنيع مدفع بابل.[65]

    وبالإضافة إلى ذلك, اتّخذت الإدارة الأميركية عدداً من الإجراءات كان من شأنها تصعيد التوتر مع العراق. فأولاً, وفي 27 فبراير 1990, عبَّر مستشار الرئيس لشئون الأمن القومي (برنت سكوكروفت) عن عدم رضى الرئيس بوش عن النقد الذي وجهه الرئيس العراقي للولايات المتحدة. ثانياً, تم إرسال تعليمات للسفراء الأميركيين في العواصم العربية للتركيز على أوجه الخلاف العراقية~الأميركية. ثالثاً, وفي 3 مارس/آذار, قام أحد الموظفين الرسميين في وزارة الخارجية الأميركية (وهو سكيب غنيم) بإبلاغ السفير العراقي في واشنطن بأن تصريحات الرئيس صدام حسين "مروعة." رابعاً, قررت لجنة نواب الوزراء تعليق المجموعة الثانية من القروض الزراعية للعراق, وتكوين لجنة ممثلة لكافة الوكالات الحكومية بهدف التصدي للمحاولات العراقية للحصول على الأسلحة الذرية. أخيراً, وفي 29 مايو/أيار, قررت لجنة نواب الوزراء تعليق كافة برامج القروض الاقتصادية للعراق.[66]

    وقد تزامنت تلك الإجراءات مع تصاعد الأزمة. ففي 30 مايو/أيار, شجب الرئيس صدام حسين ما تقوم به الكويت من حرب اقتصادية ضد العراق. وفي 25 يوليو/تموز, استدعى السفيرة الأميركية ليحتج على المناورات العسكرية الأميركية~الإماراتية, وأوضح لها أن تلك المناورات من شأنها أن تشجع الكويت والإمارات على تجاهل الدبلوماسية التقليدية. وفي نهاية الاجتماع, وعدها بألاَّ يفعل شيئا قبل اجتماع جدة, أو بعده إذا ما أعطاه الكويتيون بصيصاً من الأمل. وعندما سأل السفيرة غلاسبي عن الموقف الأميركي تجاه المنازعات العراقية~الكويتية, أجابته قائلة: "كما تعلم, إننا لا نأخذ موقفاً من المنازعات الحدودية (على الأراضي)."[67]

        كذلك فإن السفيرة الأميركية قد أخبرت الرئيس صدام حسين بأنَّ الولايات المتحدة "ليس لديها رأي في النزاعات العربية~العربية, مثل نزاعكم الحدودي مع الكويت." وبعد ذلك, قامت السفيرة غلاسبي بإبلاغ الرئيس بوش عما دار في الاجتماع. وفي رده, قال لها بأن إدارته "مستمرة في رغبتها في علاقات أفضل مع العراق," ونقلت ذلك بدورها إلى الحكومة العراقية.[68]      أما مباحثات جده, فقد فشلت نتيجة لرفض الكويت للمطالب العراقية, خاصة فيما يتعلق بالتعديلات الحدودية ومسامحة ديون الحرب.[69] ولم يدم الاجتماع لأكثر من 105 دقائق, وانتهى بتحد كويتي للعراق أطلقه رئيس الوفد الكويتي (الشيخ سعد العبد الله) قائلاً لنائب الرئيس العراقي (عزت إبراهيم): "أعلى ما في خيلك اركبه."[70] ورداً على ذلك التحدي, قام الرئيس العراقي بتحريك قواته إلى الحدود, خاصة بعد أن أخبرته السفيرة الأميركية أن الولايات المتحدة لا تتدخل في المنازعات العربية~العربية. لكن الرئيس بوش قد غير رأيه بسرعة بعد الغزو, كما أوضحنا سابقاً. فلم يكن باستطاعته تحمل الضغوط التي انهالت عليه من "المتخصصين" المعادين للعراق في إدارته. كما أنه لم يكن هناك "مستعربون" لموازنة النفوذ الهائل الذي يتمتع به أعوان إسرائيل في الإدارة الأميركية.

 

خيار القوة بدلاً من العقوبات

 

        علم الرئيس بوش بالغزو العراقي للكويت لأول مرة عند الساعة الثامنة وعشرين دقيقة من يوم الأربعاء, الأول من أغسطس/آب (الثاني من أغسطس/آب في الشرق الأوسط) 1990. وقام بإبلاغه بذلك مستشاره لشئون الأمن القومي (برنت سكوكروفت), الذي كان قد تلقى الخبر قبل ذلك من ريتشارد هاس, "المتخصص" في الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي. وخلال الاجتماع, تلقى سكوكروفت مكالمة هاتفية من بوب كيميت (من وزارة الخارجية) أخبره فيها عن حدوث إطلاق نار في مدينة الكويت. على إثر ذلك, عقد سكوكروفت اجتماعاً للجنة الوكالات والإدارات الحكومية, التي أوصت باتخاذ عدة إجراءات سريعة كرد على الغزو. وتضمنت تلك الإجراءات تحريك قوات أميركية إلى المنطقة, وإرسال سرب من طائرات إف-15 للسعودية (بعد موافقتها على ذلك), وتجميد الأرصدة العراقية والكويتية في الولايات المتحدة. وقد وقع الرئيس بوش أمراً إدارياً لتنفيذ تلك التوصيات عند الساعة الرابعة والنصف صباحاً.[71]

    وخلال ذلك الاجتماع, اقترح ريتشارد هاس أن تقوم إدارة بوش بتبني استراتيجية ذات مسارين: يبدأ الأول بإرسال إنذار إلى العراق بالانسحاب من الكويت بدون شروط, ويركز الثاني على زيادة الاستعدادات العسكرية الأميركية. وعبَّر وزير الدفاع, دِك شيني, عن اعتقاده بأن العقوبات الاقتصادية لن تحقق الغرض خلال المدة التي قرر أن يقبلها لإنهاء الأزمة, أي فبراير/شباط ومارس/آذار. وأيده في ذلك رئيس هيئة الأركان المشتركة, الفريق كولن باول, مضيفاًبأن قواته سيتكامل وجودها في المنطقة بحلول 15 يناير/كانون ثاني.[72]

        وهكذا, كان الهدف (ومنذ البداية) استعمال القوة, وليس الانسحاب العراقي من الكويت. لذلك, لم يُف الرئيس بوش خوفه (بعد ذلك) من الانسحاب الجزئي للقوات العراقية, لأن ذلك لو حدث فإنه كان سيحرمه العذر لاستخدام القوة. وعبَّر عن ذلك في مذكراته قائلاً: "يمكن أن يقوم صدام بانسحاب جزئي, يحاول بعده التأثير على الرأي العام العالمي حتى لا نتمكن من استصدار قرار آخر (من مجلس الأمن), كما يمكن أن يعتقد أن باستطاعته أن يطيل أمد الأزمة إلى أن يتم تفكك التحالف."[73]

        وتنفيذاً لأفكار ريتشارد هاس, قام الرئيس بوش بالاتصال بالرئيس السوفيتي (غورباتشيف) في 19 نوفمبر/تشرين ثاني, وأبلغه أنه بحاجة إلى قرار من الأمم المتحدة يتضمن فكرتين. الأولى, أن يحتوي القرار على إنذار للعراق بالانسحاب قبل تاريخ محدد. والثانية, أن ينص على عبارة "استخدام كل الوسائل الضرورية." وبالطبع, وافق غورباتشيف على تبني القرار, وعلى منتصف يناير/كانون ثاني, كتاريخ لبدء الحرب.[74]

        وفي 29 نوفمبر/تشرين ثاني, ترأس وزير الخارجية الأميركي (جيمس بيكر) جلسة مجلس الأمن الدولي للتصويت على القرار رقم 678. فصوتت مع القرار اثنتا عشرة دولة, وصوتت ضده كوبا واليمن, وامتنعت الصين عن التصويت. وقد "أجاز القرار لجميع الدول الأعضاء, متعاونة في ذلك مع حكومة الكويت, أن تستخدم كل الوسائل الضرورية لتنفيذ جميع القرارات (التي صدرت بخصوص الأزمة) ولاستعادة السلام والأمن العالميين إلى المنطقة, إلاّ إذا قام العراق بتنفيذ تلك القرارات قبل 15 يناير/كانون ثاني 1991." وهكذا, صوت مجلس الأمن مجيزاً للتحالف الذي قادته الولايات المتحدة شن الحرب على العراق.[75] ومع ذلك, فإن التصويت لم يمثل الإرادات الحرة للدول الأعضاء في المجلس, وإنما كان يمثل استخدام قوة ونفوذ الولايات المتحدة للتأثير على تلك الدول. فلكي تحصل إدارة بوش على موافقة الأغلبية في مجلس الأمن, استخدم وزير الخارجية الأميركي كافة الوسائل المتاحة لديه. وتضمنت تلك "الدبلوماسية البيكرية" المناورات, والرشوة, والمضايقة, وحتى التهديد, ضد الدول الأعضاء في المجلس (الأمر الذي سيأتي بيانه بالتفصيل في الفصل الثامن). وليس من قبيل الصدف أن يكون القرار المماثل الذي صدر باستخدام نفس الوسائل هو قرار تقسيم فلسطين الذي أوجد إسرائيل, والذي تم تبنيه أيضاً في 29 نوفمبر/تشرين ثاني قبل ذلك بثلاثة وأربعين عاماً, أي في عام 1947.

        أما في الكونغرس, فقد أراد زعماء الجمهوريين التقدم بمشروع قرار يؤيد استخدام القوة, لكنهم تراجعوا خشية أن يوصموا بأنهم "الحزب المحرض على الحرب." وكمخرج أفضل لهم, بدأوا يعملون على دفع الديمقراطيين لاتخاذ نفس الموقف.[76] ونجح الجمهوريون في مسعاهم, وأيد الكونغرس استخدام القوة. وفي 13 يناير/كانون ثاني, اجتمع كبار المسئولين في وزارة الدفاع وفي مجلس الأمن القومي, في البيت الأبيض. وقرر المجتمعون على أن يبدأ الهجوم عند الساعة الثالثة من صباح 17 يناير/كانون ثاني بتوقيت منطقة الخليج العربي, أي الساعة السابعة مساء من يوم 16 يناير/كانون ثاني بتوقيت واشنطن. كما اتفقوا على الأهداف الاستراتيجية العراقية التي سيتم تدميرها خلال الحملة الجوية, مثل محطات توليد الكهرباء, والجسور, ومعامل تكرير النفط.[77]

 

التهجم على شخص الرئيس العراقي

 

        وفي محاولة أخرى لتبرير اختيار الحرب, بدلاً من الحلول السلمية للأزمة, لجأ الرئيس بوش للتهجم على شخص الرئيس العراقي, وبدأ يقرنه بهتلر منذ الأسبوع الأول بعد الغزو, أي في 8 أغسطس/آب 1990. وأوجه الشبه التي ذكرها بوش وغيره من أعوان إسرائيل (في البداية) أن هتلر قد تحدى وخرق معاهدة فرساي بزحفه على الدول المجاورة لألمانيا.[78] لكن صدام حسين لم يخرق أية اتفاقية (حيث أنه لم تكن هناك اتفاقية حدودية بين البلدين), عندما قامت القوات العراقية بغزو الكويت. لذلك, يبقى تهديده لإسرائيل هو السبب الحقيقي لاستخدامهم ذلك التشبيه.

        ولم يكن الرئيس بوش هو أول من استخدم ذلك التشبيه. وكأي رئيس أميركي, فإنه عادة  يتبع ما تجود به قرائح أعوان إسرائيل من أفكار. فقد كتب أحد هؤلاء (وهو باري روبِن) قبل الغزو بقليل, متهجما على الرئيس العراقي, فقال: "إنّ المعتدين يصبحون أكثر قوة عند استرضائهم. لقد تعلم العالم ذلك بعد أن دفع تكلفة باهظة ثمنا لاتفاقية ميونخ, التي وقعت في عام 1938. ولم يعد بإمكان القادة العسكريين الألمان أن يعترضوا على (خطط) هتلر بعد أن أثبت نجاحه." ثم أنهى روبِن مقالته منادياً بأنه على الولايات المتحدة أن تنتهج سياسة حاسمة ضد طموحات العراق, لتثنيه عن "عدوانه" ضد حلفاء الولايات المتحدة."[79]

    وعاد بوش لاستخدام التشبيه في لقائه مع غورباتشيف, في 9 سبتمبر/أيلول 1990. فقد اقترح الرئيس السوفيتي إعطاء الرئيس العراقي بعض الأمل حتى لا يبدوا العراق وكأنه ركع على ركبتيه (كلمات غورباتشيف). لكن الرئيس بوش رفض ذلك الاقتراح بسرعة, مستخدماً تشبيه الرئيس العراقي بهتلر, الأمر الذي لم يوافق عليه غورباتشيف.[80]

        وبالطبع, فإن مقارنة الرئيس العراقي صدام حسين بهتلر ليست سخيفة فقط, وإنما غير دقيقة أيضاً. والأهم من ذلك أنه قُصد منها جعل الأزمة شخصية, أي متعلقة بالرئيس العراقي شخصياً. وبالتالي, فإن الرئيس بوش قد أعلن مراراً بأن الولايات المتحدة ليس لديها نزاع مع الشعب العراقي, وإنما مع الرئيس العراقي فقط.[81] والحقيقة أن بوش لم يكن صادقاً في ذلك. فقد تعرض العراقيون للموت بمئات الآلاف أثناء الحرب وبعدها, وعانوا من الفقر والحرمان ونقص الغذاء والدواء لأكثر من عشرة أعوام بعد الحرب, كما أن التدمير قد طال البنى التحتية العراقية التي بقيت متأثرة نتيجة الحصار الجائر والعقوبات الاقتصادية غير المبررة. وهكذا, كان القصد من التركيز في الهجوم على شخص الرئيس العراقي خديعة شعوب دول التحالف, حتى لا يفكر الناس بما ستجره الحرب من خسائر على الشعب العراقي.

        ولم يتوقف الرئيس بوش عن مسعاه ذاك. ففي 28 أكتوبر/تشرين أول, بدأ جولة في مختلف أنحاء الولايات المتحدة بحجة مساعدة المرشحين الجمهوريين الذين كانوا يتنافسون مع الديمقراطيين للفوز بمقاعد الكونغرس. ولكنه استمر في التهجم على الرئيس العراقي في خطبه, مستخدماً أسلوب تشبيهه بهتلر.[82] وفي 24 ديسمبر/كانون أول, كتب الرئيس بوش في مذكراته أنه كان يفكر "بالأطفال العراقيين (كذا), وأيضاً بهذا الرجل الذي لا ينبغي أن يوقف عند حده فقط, وإنما ينبغي معاقبته أيضاً. بعدها, نفكر في كيفية معالجة علاقاتنا بالبلدان العربية."[83] لكن الرئيس بوش لم يوضح كيف يمكن معاقبة شخص بقتل مئات الآلاف من الأشخاص في الحرب, ومئات الآلاف من الأطفال بعدها, وتدمير البنى التحتية في بلد بأكمله. كلام غير منطقي, لا يمكن أن ينطلي على أحد ذو عقل أو ضمير.

 

 

 

 

 

صقور الحرب في مجلس الأمن القومي والكونغرس

 

        كان الرئيس بوش محاطاً بمجموعة من صقور الحرب, الذين لم يسمحوا له ولأنفسهم بأن يفكروا بأية حلول سلمية للأزمة. وعلى العكس من ذلك, فقد استمروا في دفعه نحو خيار الحرب من بداية الأزمة إلى نهايتها. فخلال اجتماع مجلس الأمن القومي الذي انعقد في 2 أغسطس/آب, أشار وزير الدفاع (دِك شيني) إلى أنه سيتم استعمال القوة, إن عاجلاً أم آجلاً. أما الفريق كولن باول, فقد أكد أنه في حالة اتخاذ القرار السياسي باستخدام القوة, فان من الضروري أن تكون هناك قوات كافية على الأرض, وأن يعطى العسكريون حرية العمل لإنجاز مهمتهم. كذلك أشار باول إلى أن رئاسة الأركان المشتركة والقيادة المركزية (المكلفة بالعمل في منطقة الخليج العربي) كانتا تحضِّران لخيارات عسكرية منذ أسابيع. وأضاف الفريق شوارزكوف إلى ذلك بأن هناك خطة تم التدريب على تنفيذها من قبل للدفاع عن منطقة إنتاج النفط في السعودية, باستخدام القوات الأميركية الموجودة في المنطقة.[84]

    ومع ذلك, لم يكن باول يبدو عارفاً بمدى أهمية الأزمة لأعوان إسرائيل, لذلك فإنه تساءل خلال الاجتماع "عما إذا كان إخراج القوات العراقية من الكويت يستحق من أميركا أن تخوض حرباً من أجله." فأجابه لاري ايغلبيرغر (الذي كان حاضراً الاجتماع كنائب لوزير الخارجية) بحزم: "نعم." وأضاف بأن على الولايات المتحدة أن تلجأ إلى الفصل السابع من (ميثاق) الأمم المتحدة, الذي يجيز استعمال القوة العسكرية والعقوبات الاقتصادية."[85] والحقيقة أن الولايات المتحدة لم تفعل شيئاً آخر غير الذي قرره إيغلبيرغر بهذه الكلمات الموجزة, الأمر الذي يوضح بجلاء من هم صناع القرار الحقيقيون في أميركا. فكل ما فعله بقية الرسميين الأميركيين بعد ذلك لم يخرج عما قرره إيغلبرغر, أي استخدام القوة العسكرية والعقوبات الاقتصادية ضد العراق.

        أما مستشار الرئيس لشئون الأمن القومي (برنت سكوكروفت) فإنه قد اختار المواجهة منذ البداية أيضاً. فاقترح فرض حظر على مبيعات النفط الكويتية والعراقية, ووافقه الرئيس بوش, وأضاف قائلاً أنه "ينبغي علينا أن نضغط على السعودية والآخرين ... ونفرض العقوبات الأميركية (وحدنا) قبل حلول الظهر.[86] وتجلى الضغط الأميركي على السعودية في ضرورة قبول الملك فهد باستقبال القوات الأميركية قبل توجه الوفد العسكري الأميركي (برئاسة وزير الدفاع شيني) لاطلاعه على خطورة الموقف. وتم إبلاغ السعوديين بأن القوات العراقية تتجمع على الحدود استعدادا لغزو السعودية, والوسيلة الوحيدة لوقفها هو استقبال القوات الأميركية للدفاع عن المملكة. وهكذا, وافق الملك فهد على استقبال القوات الأميركية قبل أن يرى الدليل على صحة ما يقوله الرسميون في إدارة بوش.[87]

        وعلى الرغم من الموقف الحاسم إلي أظهره إيغلبرغر في تصديه لباول, إلاّ أن سكوكروفت لم تعجبه ردود أفعال الموجودين في اجتماع مجلس الأمن القومي في ذلك اليوم, فلم يكونوا صقوراً (أي دعاة حرب) بما فيه الكفاية بالنسبة له. فأخبر الرئيس بوش بما كان يقلقه بهذا الشأن, وطلب منه أن يكون أول المتحدثين في الاجتماع التالي للمجلس "ليوضح بأن هذا الغزو لا يمكن احتماله قطعياً (لتأثيره) على المصالح الأميركية." فوافقه الرئيس بوش على ذلك.[88]

        كذلك كان سكوكروفت أول من اقترح خطة الحرب البرية كما نفذت فيما بعد. فلم تعجبه خطة العسكريين التي طرحوها في 11 أكتوبر/تشرين أول, والتي ركزت على شن هجوم على وسط الجيش العراقي. وبدلاً من ذلك, اقترح أن تقوم القوات الأميركية والمتحالفة معها بالالتفاف من الغرب والشمال على القوات العراقية في الكويت "لعزلها."[89]

    كما أن سكوكروفت لم يكن متحمساً لفكرة ذهاب جيمس بيكر إلى بغداد وقدوم طارق عزيز إلى واشنطن.[90] وأخيراً, فإنه كان حذراً من الحلول العربية للأزمة, فكان خائفاً من احتمال توصل العرب لحلول وسط مع العراق,[91] الأمر الذي لم يكن راغباً في حدوثه.

        وبالنسبة لموقف وزير الخارجية, جيمس بيكر, فكان مختلفاً قليلاً. فقد كان معارضاً للتفكير باستخدام القوة في بداية الأزمة. فكان يؤمن بأنه ينبغي إعطاء الدبلوماسية والعقوبات الفرصة ليحققا الهدف, وأن يكون اللجوء لاستخدام القوة هو الخيار الأخير. لكنه ما لبث أن انضم إلى صقور الحرب جاعلاً الدبلوماسية في خدمة قرار الحرب. وقد أشار في كتابه إلى أن موقفه قد تغير في 29 نوفمبر, نتيجة للتصويت الذي أجاز استخدام القوة في مجلس الأمن الدولي. وذكر أن دوره "كدبلوماسي لم يعد يهدف إلى تحقيق حل سياسي, وبالتالي إلى منع الحرب, وإنما إلى المساعدة في شن الحرب وكسبها."[92] وهكذا, اعترف بأن مهمته في اجتماع جنيف الشهير مع طارق عزيز لم تكن لمنع الحرب, بل لشنها, وذلك من خلال رسالة الإنذار والتهديد التي حملها, معه والتي كان موقناً من أن الوفد العراقي لن يقبلها. والحقيقة أن جيمس بيكر قد تحول إلى صقر حرب قبل قرار مجلس الأمن بوقت طويل, وإلاَّ لما عمل بكل ما في وسعه لاستصدار قرار الحرب ذاك. وطيلة فترة الأزمة, لم يقم بدور الدبلوماسي الباحث عن الحلول السلمية أبداً. وتمثل ذلك في الرفض المستمر للمبادرات السلمية التي لم تنقطع, لحل الأزمة, كما سيتم بحثه في الفصل الثامن.

نظام بوش العالمي الجديد

 

        في محاولة لتبرير الحرب, حاول الرئيس بوش التأكيد على تأثير الغزو العراقي للكويت على النظام العالمي. ففي خطاب له ألقاه في منتصف أغسطس/آب 1990, قال بأن الغزو يهدد اقتصاديات الدول الصناعية من خلال السيطرة العراقية على الكثير من إمداداتها النفطية. ولذلك السبب, فلا يمكن للولايات المتحدة أن تسمح للعراق بالاستمرار في سيطرته على تلك المصادر.[93]

        وفي 13 نوفمبر/تشرين ثاني, حاول جيمس بيكر شرح التدخل الأميركي في الأزمة بإعطاء تفاصيل أكثر عن نفس الفكرة التي تحدث عنها بوش سابقاً, فقال إنّ الأمر يتعلق "بالوظائف, بالوظائف, بالوظائف," أي بأرزاق الأميركيين. وتوقع أن تصبح أسعار النفط أعلى بكثير عما كانت عليه, الأمر الذي سيخلق انخفاضاً اقتصادياً عالمياً وركوداً اقتصادياً في الولايات المتحدة. وذلك من شأنه أن يؤدي إلى فقدان عشرات الآلاف من الأميركيين لوظائفهم.[94]

        ومن الواضح أن الرئيس بوش ووزير خارجيته قد صدقا التقارير التحريضية التي كتبها "الخبراء" داخل الإدارة وخارجها. فقد حذَّر بعض هؤلاء من أن أسعار النفط ستصل إلى مائة دولار للبرميل الواحد. وتوقع خبراء المصرف الدولي أن يصل السعر إلى 65 دولار للبرميل. أما صحيفة نيويورك تايمز, فقد حذرت من أن التكاليف الباهظة "للصدمة النفطية" ستعمق الركود الاقتصادي الأميركي وتسرع في نشر الركود على مستوى العالم.[95]

        وبالرغم من محاولات بوش وبيكر في هذا الصدد, فإن ما قالاه لم يكن كافياً لتبرير التدخل الأميركي في الأزمة, ولم يكن يتطلب خوض حرب من أجل ذلك. فعلى أفضل الأحوال, لم يعد ما ناديا به عن كونه وجهة نظر افتراضية في غاية التبسيط. فالعراق كان لا محالة سيبيع نفطه, بكميات كبيرة, من أجل الحصول على مبالغ كافية لإعادة الإعمار والاستمرار في التنمية. والمفروض أن قانون العرض والطلب, لا الإرادة السياسية, هو الذي سيحسم الأمر في نهاية اليوم. وحتى لو لم ينسحب العراق من الكويت (وتلك حالة افتراضية, لأن العراق أعلن مراراً ومن خلال عشرات المبادرات السلمية عن نيته في الانسحاب من الكويت), فإنه كان سيسيطر على حوالي 20 بالمائة من الإحتياطيات النفطية العالمية, وهو ما يقل عما تسيطر عليه السعودية (أي أنه لن يكون في وضع احتكاري لتلك السلعة لا من قريب ولا من بعيد). أخيراً, كان لا يزال هناك الكثيرون من منتجي النفط الذين سيبيعون نفطهم, على أية حال.

        وهكذا لم تكن فكرة التهديد العراقي للاقتصاد الأميركي والعالمي مقنعة. لذلك, بدأ الرئيس بوش في استعمال فكرة جديدة لاقت استقبالاً أفضل من سابقتها. لقد عبَّر أكثر من مرة عن رؤيته لظهور نظام عالمي جديد نتيجة لانتهاء الحرب الباردة. وتوقع أن يؤدي ذلك إلى تمكن الولايات المتحدة من معالجة أفضل للصراعات الإقليمية, بعدما انتهى الاتحاد السوفيتي وتوقف دعمه لبلدان العالم الثالث,[96] التي أصبحت لقمة سائغة أمام الدول الصناعية الغربية التي خرجت منتصرة من تلك الحرب.

        وخلال اجتماعهما في 9 سبتمبر/أيلول 1990, في فنلندا, أخبر الرئيس بوش الرئيس غورباتشيف بأن هناك نظاماً عالمياً جديداً قد ظهر نتيجة لانتهاء الحرب الباردة. وأضاف أن ذلك سيؤدي إلى تعاون بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لحل مشكلات الشرق الأوسط.[97] وخلال خطاب له ألقاه أمام الكونغرس في 11 سبتمبر 1990, عرض الرئيس بوش وجهة نظر رومانسية لنظامه العالمي الجديد. فوصفه بأنه "عصر جديد, يخلو من التهديد بالإرهاب, أقوى في السعي من أجل العدالة, وأكثر أمناً في بحثه عن السلام. عصر يمكن فيه لشعوب العالم, في الشرق والغرب والشمال والجنوب, أن تزدهر وتعيش في انسجام ... عالم يحل فيه حكم القانون محل حكم الغابة. عالم تعترف فيه الشعوب بالمسئولية المشتركة عن الحرية والعدالة. عالم يحترم فيه القوي حقوق الضعيف."[98]

        ولكن ذلك السلام العادل لم يصل إلى الشرق الأوسط, حتى بعد ذلك بأكثر من عشرة أعوام. فلا تزال إسرائيل تحتل الأراضي العربية التي احتلتها بالقوة منذ عام 1967. وهكذا, لم يوفر نظام بوش العالمي الجديد إلاَّ مزيداً من الدعم لإسرائيل في عدوانها على الأمة العربية, ومزيداً من الحماية لاحتلالها للأرض العربية. كما أن دعوة بوش للتعاون السوفيتي~الأميركي لمعالجة الأزمة لم تكن إلاّ حيلة لتحييد الاتحاد السوفيتي حتى لا يقدم دعماً للعراق, وبالتالي حتى يتم إنهاء الغزو العراقي للكويت بالقوة, كما أرادت الولايات المتحدة. وبمجرد تحقيق ذلك الهدف, عادت الولايات المتحدة لممارسة دورها التقليدي في الشرق الأوسط (أي تابعة ومنفذة للسياسة الإسرائيلية), فلم تفعل شيئاً بعد الحرب من قبيل الضغط على الحكومة الإسرائيلية حتى تلتزم بالاتفاقيات التي وقعتها مع السلطة الفلسطينية. فخلال فترة بقائها في الحكم, من يونيو/حزيران 1996 إلى مايو/أيار 1999, استمرت حكومة نتنياهو في تأخير الانسحاب من الأراضي الفلسطينية, كما علقت المفاوضات مع سوريا ولبنان. ولم تمارس الولايات المتحدة أي ضغط لحملها حتى على تنفيذ اتفاق واي ريفر الذي وقعته مع السلطة الفلسطينية. وكان على العالم كله أن ينتظر حتى قام الإسرائيليون بتغيير حكومتهم في مايو 1999, عندما انتخبوا مرشح حزب العمل (إيهود باراك) رئيساً جديداً للوزراء. ولم يسفر انتخابه هو الآخر إلاّ عن مزيد من التسويف والتهرب من تنفيذ الاتفاقيات, الأمر الذي أدى لتفجر الانتفاضة, ومن ثم الإتيان بالوجه الحقيقي لإسرائيل (شارون) إلى السلطة. ولم تفعل الحكومة الأميركية في أواخر عهد كلنتُن وبداية عهد بوش الأصغر شيئاً مختلفاً. فتوصيات ميتشيل ومهمة تينيت ووساطة زيني لم تؤد إلاَّ لمساعدة حكومة شارون, وبالتالي إلى استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.

        وهكذا, فإن انتهاء الحرب الباردة لم يؤدِ إلى نظام عالمي جديد, كما نادى بذلك الرئيس بوش. والحقيقة أن حرب الخليج التي شنت على العراق في عام 1991, كانت تعبيراً عن استمرار النظام العالمي القديم, الذي بدأ مع نهاية الحرب العالمية الأولى. فقوى الحلفاء التي انتصرت في تلك الحرب (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا) هي التي تهيمن على النظام العالمي, منذ ذلك الحين. ولم تنجح المحاولات الألمانية والسوفيتية والعراقية لتحدي ذلك التحالف الغربي لحد الآن.

        والحقيقة أن إدارة بوش, بلجوئها لاستعمال القوة بدلاً من الحلول الدبلوماسية أو العقوبات, قد فشلت في الاستفادة من الفرصة الذهبية (الذي أتاحها انتهاء الحرب الباردة) لبدء نظام عالمي سلمي جديد. وكما قال عضو مجلس الشيوخ بوب كاري, الذي كان يمثل ولاية نبراسكا, فإن اللجوء إلى استعمال القوة لحل الأزمة هو قرار "خاطئ, ذلك لأنه يضحي بإمكانية ولادة نظام عالمي جديد, من أجل الحفاظ على وسائل العمل التي كانت سائدة في النظام القديم. فبدلاً من الاعتماد على الدبلوماسية, والتعاون, والمراقبة المتعددة الأطراف للحد من مبيعات الأسلحة, فإن الولايات المتحدة ستلجأ من الآن فصاعداً إلى الاعتماد على قواتها ومبيعات أسلحتها."[99]    

          

الخلاصة

 

        قرار الرئيس بوش بالحرب على العراق كان مبعثه توصيات الخبراء من أعوان إسرائيل في إدارته. وقد نجح أولئك الخبراء في تغيير السياسة الأميركية تجاه العراق من ودية إلى معادية, قبل الغزو بأشهر عديدة. ويحتل هؤلاء الخبراء أعلى المناصب في مختلف الوكالات والإدارات الحكومية والمؤسسات الخاصة. ويمكن توضيح كيفية رؤيتهم لما ينبغي أن يكون عليه العالم من خلال فهم نظرية "الواقعية السياسية," التي تركز بشكل أساسي على كسب الحروب, بغض النظر عما إذا كانت تلك الحروب ضرورية أم لا. وهكذا, فإن خيار الحرب ضد العراق كان هو الهدف الرئيس, وليس إخراج القوات العراقية من الكويت, كما كانت تدعي إدارة بوش طيلة فترة الأزمة. كذلك فإن المبادرات السلمية أو العقوبات الاقتصادية لم تعط الفرصة لتحقق الغرض قبل الحرب.

وجملة القول أن ممثلي النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة قد اختاروا استعمال القوة لإنهاء الغزو العراقي للكويت, بدلاً من استخدام المبادرات السلمية أو العقوبات الاقتصادية, لعدة أسباب. فأولاً, إنّ تدمير القدرات الاقتصادية والعسكرية العراقية يزيل القوة العربية الرئيسة الثانية من المواجهة مع إسرائيل, بعد إخراج مصر من تلك المواجهة من خلال اتفاقية كامب ديفد. ومن شأن ذلك أن يترك الشعب العربي الفلسطيني في موقف أضعف خلال مفاوضات التسوية النهائية للصراع الفلسطيني~الإسرائيلي (أما الصراع العربي~الإسرائيلي فهو مستمر على المدى الطويل). كما أن ذلك سيؤدي إلى وضع تحتل فيه إسرائيل مركز الهيمنة لكونها القوة الذرية الوحيدة في المنطقة. ثانياً, ستجلب الحرب فوائد جمة للصناعات العسكرية الغربية, خاصة أنها ستقيم الدليل على الحاجة لاستمرار الإنفاق العسكري خلال مرحلة ما بعد الحرب (كما مرَّ في الفصل الخامس). ثالثاً, إنَّ تدمير قوة العراق من شأنه أن يضعف نفوذ القوميين الوحدويين ويقوي مركز النخب الحاكمة داخل الأقطار العربية, لا سيما التي تدعي السيادة منها. وهكذا, يستمر العرب في حالة من الضعف والتجزئة أثناء تعاملهم مع القوى الغربية والصهيونية التي تستغلهم (كما مرَّ في الفصلين الرابع والخامس). لهذه الأسباب جميعاً, لم تتح للعراق أية فرصة للانسحاب من الكويت بدون حرب. وهذا يفسر لماذا رفضت إدارة بوش جميع المبادرات التي كانت تهدف لحل الأزمة سلمياً (كما سيتم إيضاحه بالتفصيل في الفصل الثامن).

 

 

ملحق 7

ملخص لقرارات مجلس الأمن التي استصدرت

ضد العراق

 

        في الثاني من أغسطس/آب 1990, صدر القرار رقم 660, الذي أدان الغزو العراقي للكويت, وطالب بالانسحاب العراقي غير المشروط منها. وفي 7 أغسطس/آب, صدر القرار رقم 661, الذي فرض العقوبات الاقتصادية والحصار على العراق والكويت. وفي 9أغسطس/آب, صدر القرار رقم 662, الذي اعتبر ضم العراق للكويت لاغياً. وفي 19 أغسطس/آب, صدر القرار رقم 664, الذي طالب بالسماح للأجانب بمغادرة الكويت والعراق. وفي 25 أغسطس/آب, صدر القرار رقم 665, الذي منع التجارة مع العراق, وسمح للقوات المسلحة للدول الأعضاء بتنفيذ الحصار والعقوبات الاقتصادية. وفي 16 سبتمبر/أيلول, صدر القرار رقم 667, الذي ندد بأعمال "العنف" العراقية ضد البعثات الدبلوماسية في الكويت. وفي 19 سبتمبر/أيلول, صدر القرار رقم 669, الذي وسع العقوبات لتشمل جميع وسائل المواصلات, بما في ذلك الطيران. وفي 25 أكتوبر/تشرين أول, صدر القرار رقم 674, الذي طلب من الدول الأعضاء أن توثق الخسائر المالية والتعديات على حقوق الإنسان, الناتجة عن الغزو. وفي 28 نوفمبر/تشرين ثاني, صدر القرار رقم 677, الذي طلب من الأمين العام للأمم المتحدة أن يحافظ على نسخة من السجل السكاني للمواطنين الكويتيين, والتي تم تهريبها من الكويت. وفي 29 نوفمبر/تشرين ثاني, صدر القرار رقم 678, الذي أجاز استخدام كل الوسائل الضرورية (أي القوة) لضمان انسحاب العراق من الكويت.[100]

 

ملاحظات ومصادر



[1] Baker (1995: 274).

[2] Levrani (1997: 164).

[3] Bush and Scowcroft (1998: 305); Baker (1995: 63);

  Timmerman (1991: 347-349).

[4] Baker (1995: 265-166).

 

[5]  اصطلاح "أعوان إسرائيل" هنا يشير إلى الأشخاص الذين يشغلون مناصب هامة في مختلف الإدارات الحكومية والمؤسسات الخاصة, الذين يتبنون وجهات نظر الحكومة الإسرائيلية, والذين ينظرون إلى المصالح القومية الإسرائيلية والأميركية على أنهما متطابقتان. وقد برزت الحاجة لدى المؤلف لاستخدام هذا الاصطلاح لموازنة استخدام أعوان إسرائيل هؤلاء لاصطلاح "المستعربين," في إشاراتهم التهكمية إلى كل من يتعاطف مع القضايا العربية من الدبلوماسيين في وزارة الخارجية الأميركية.

[6] Mills (1956); Domhoff (1990; 1998).

[7] McCormic (1995: 13-15).

[8] Tucker and Hendrickson (1990: 137).

[9]   الاصطلاح باللغة الانكليزية هو "باكس أميركانا."

   Baker (1995: 276). (Pax Americana).

[10] Brezezinski (1988: 681).

[11] Marullo (1993: 78).

[12] Morgenthau (1985).

[13] Silverstein and Holt (1989); Marullo (1993: 108).

[14] Silverstein and Holt (1989).

[15] Bush and Scowcroft (1998: 427).

[16] Powell (1995: 495).

[17]  لباده (1991: 44-45).

[18] The Guardian (April 19, 1991).

[19] Bush and Scowcroft (1998: 427).

[20] Bin Sultan (1995: 316).

[21] Powell (1995:459).

[22] Christison (1999: 219-20, 47-53).

[23] Christison (1999: 247-248).

[24] Christison (1999: 336).

[25] Domhoff (1990: 114).

[26] Domhoff (1990: 115, 107-153).

[27] Domhoff (1990: 114-115).

[28] Marullo (1993: 45).

[29] Ajami (1989).

[30] Hunter (1989: 149).

[31] Nye (1989: 58).

[32] Sorensen (1990: 17).

[33] Rubin (1990: 142).

[34]  والأهداف الأربعة هي: أولا, بقاء الولايات المتحدة كأمة حرة ومستقلة, لا تمس قيمها الأساسية, ولا تتهدد مؤسساتها, ويبقى شعبها آمناً. ثانياً, أن يكون الاقتصاد الأميركي في حالة من العافية والنمو, من أجل ضمان الفرص للنجاح الفردي, وحتى يكون مصدراً للموارد والمشروعات القومية في الداخل والخارج. ثالثاً, إبقاء العالم في حالة من الاستقرار والأمن, لضمان ورعاية الحرية السياسية, وحقوق الإنسان, والمؤسسات الديمقراطية. رابعاً, المحافظة على استمرار علاقات صحية وتعاونية وسياسية قوية مع الأمم الحليفة والصديقة.

      (Nunn, 1990: 42).

[35] Bush and Scowcroft (1998: 256).

[36] Clarke (1992: 95).

[37] McCormic (1995: 8).

[38] Bin Sultan (1995: 312).

[39] Powell (1995: 460).

[40] McCormick (1995: 247).

[41] Schwarzkopf (1992: 435).

[42] Baker (1995: 6, 10).

[43] Clarke (1992: 88).

[44] Bush and Scowcroft (1998: 315).

[45] Bin Sultan (1995: 261).

[46] Baker (1995: 2).

[47] Bush and Scowcroft (1998: 319-320).

[48] Baker (1995: 278).

[49] “This will not stand” (Baker, 1995: 279); Powell (1995:

      467).

[50] Baker (1995: 279).

[51] Bush and Scowcroft (1998: 382-384).

[52] Bush and Scowcroft (1998: 385).

[53]    وكان الاستثناء في سياسة ريغَن تلك عندما نجح أعوان إسرائيل في جر الولايات المتحدة لبيع الأسلحة لإيران في منتصف الثمانينات, بهدف إطالة أمد الحرب, أو لهزيمة العراق على الأقل. وقد أصبح ذلك الأمر معروفاً فيما بعد بفضيحة إيران~كونترا (كما مرَّ في الفصل الخامس).

[54] Baker (1995: 262).

[55] Bush and Scowcroft (1998: 305).

[56] Levrani (1997: 164).

[57] Smith (1989).

[58] Reich (1990).

[59] WINEP (1988); Christison (1988).

 

[60]   أصبح بول ولفوِتس نائباً لوزير الدفاع لتخطيط السياسة في إدارة ريغَن, وعاد لذلك المنصب في عهد بوش الإبن. وأصبح جيفري كيمب محللاً لشئون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي, في إدارة ريغَن. وأصبح دينيس روس مديراً لتخطيط السياسة بوزارة الخارجية, في عهد بوش الأب, ثم ارتقى بنفسه إلى منصب المبعوث الرئاسي في عهد كلنتُن.

 )          Gordon and Tailor, 1995: 6).

 

[61] Bush and Scowcroft (1998: 307).

[62] Baker (1995: 267).

[63] Levrani (1997: 67).

[64] Baker (1995: 268-269).

[65] Bush and Scowcroft (1998: 307).

[66] Baker (1995: 268-271).

[67] Bush and Scowcroft (1998: 310-311).

[68] Powell (1995: 462).

[69] Bush and Scowcroft (1998: 313).

[70]  هلال (1991: 79).

[71] Bush and Scowcroft (1998: 303-304).

[72] Bush and Scowcroft (1998: 393-395).

[73] Bush and Scowcroft (1998:404).

[74] Bush and Scowcroft (1998: 408-409).

[75] Bush and Scowcroft (1998: 414-415).

[76] Bush and Scowcroft (1998: 422).

[77] Bush and Scowcroft (1998: 446-447).

[78] Bush and Scowcroft (1998: 340).

[79] Rubin (1990: 144-145).

[80] Bush and Scowcroft (1998: 467).

[81] Bush and Scowcroft (1998: 371).

[82] Bush and Scowcroft (1998: 388).

[83] Bush and Scowcroft (1998: 434).

[84] Bush and Scowcroft (1998: 316, 354).

[85] Powell (1995: 464).

[86] Bush and Scowcroft (1998: 317).

[87] Bush and Scowcroft (1998: 330).

[88] Bush and Scowcroft (1998: 318).

[89] Bush and Scowcroft (1998: 381).

[90] Bush and Scowcroft (1998: 381).

[91] Bush and Scowcroft (1998: 381).

[92] Baker (1995: 346).

[93] Bush and Scowcroft (1998: 399).

[94] Baker (1995: 336).

[95] McCormick (1995: 248).

[96] Bush and Scowcroft (1998: 355).

[97] Bush and Scowcroft (1998: 363-364).

[98] Bush and Scowcroft (1998: 370).

[99] Baker (1995: 349).

[100] Pimlott and Badsy (1992: 275); Allen, Berry, and Polmer

    (1991: 70).